Atwasat

لا فضيلة بلا حرية

سالم العوكلي الثلاثاء 30 مايو 2023, 03:57 مساء
سالم العوكلي

أن تقوم مؤسسة ما، دينية أو غير دينية، باعتماد برنامج للإصلاح الأخلاقي للمجتمع، تحت عنوان «بشرى سارة»، بما يشبه (التطبيق) في هذا الزمن الذي بدأت فيه البرمجيات تغزو تفاصيل حياتنا، أمر يضعنا أمام أسئلة عدة، أهمها التركيبة اللغوية التي ورد بها اسم هذا البرنامج «حراس الفضيلة». فالفضيلة جبلة أخلاقية متأصلة في الإنسان تتناقض مع فكرة (الحارس) كوظيفة رقابية، وبمجرد أن تكون الفضيلة في حاجة إلى حارس تكف عن كونها فضيلة، لأنها في هذه الحالة لن تكون نابعة من ضمير الإنسان ومسؤوليته الأخلاقية الذاتية.

ولكن من واعز خارجي، مثلما حدث مع مؤسسة «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» وتحويلها إلى جهاز تنفيذي إكراهي جعل من الهداية والضلال؛ التي هي وقف على مشيئة الله فقط، شأناً بشرياً، تُسنُّ له القوانين وتُرصد له الميزانيات، وفي النهاية أدى الأمر إلى عكس نتائجه قبل أن يوقف، ورغم الديباجة الناعمة لهذا البرنامج فإن نفس الإنسان أمّارة، وقد يتحول من يُخولون حراساً للفضيلة إلى وظائف مجحفة كما حدث مع هيئة الأمر بالمعروف التي سببت احتقاناً في مجتمع المملكة السعودية لعقود، وكما يقول المفكر الإسلامي محمد الغزالي: «الإكراه على الفضيلة لا يصنع الإنسان الفاضل.. كما أن الإكراه على الإيمان لا يصنع الإنسان المؤمن.. فالحرية هي أساس الفضيلة».

مِن جانب آخر، مَن يرتكبون مخالفات أو فساداً يضر بالمجتمع، لا يرتكبونها عن جهل أو عدم دراية، لكنهم يدركون أنها أخطاء وجرائم، ولا رادع لهم سوى مؤسسات الرقابة والمحاسبة ودولة القانون.

الفضيلة كاصطلاح لم ترد حرفياً في القرآن ولا في السُّنة، إلا في سياق واحد «آت محمداً الوسيلة والفضيلة»، وفي هذه الحالة يكون معناها مختلفاً عما ورد في البرنامج، لأننا لا يمكن أن ندعو لسيد الخلق بأن يؤتيه الله الفضيلة بهذا المعنى الوارد في البرنامج.

ويبدو أنها في هذا السياق الإجرائي نتاج ترجمة لمرادفات لها في اللغات الأخرى، منتشرة في النظريات الأخلاقية وفي الفلسفة والفكر وحتى في أدبيات السياسة، كما أن السياق كله مستلهم من مراحل مرت بها الكنيسة في عصور هيمنتها على البشر عبر ما يسمى الإكليروس أو طبقة رجال الدين (الكهنة) الذين تدخلوا في خصوصيات الناس وفي طرق حياتهم تحت شعار نشر الفضيلة، ومارسوا الوصاية عليهم، من الوعظ إلى الرقابة الصارمة إلى العقاب الدنيوي إلى منح صكوك الغفران، وجوهر الإسلام كان نقيض ذلك بل وناقدا جذريا له، فالإسلام دين مختلف بنيوياً عن الأديان السابقة، لا طبقة رجال دين فيه، ولا لباساً خاصاً، ولا مؤسسات دينية رسمية أو جماعات أو شِيَعاً وأحزاباً منفصلة عن المجتمع، أو مخولة بحراسة أخلاقه.

وفي النهاية تحسنت أوضاع المجتمعات البشرية بالدراسات والبحوث، ووضع السياسات العامة وفق ما توصلت إليه دراسات الاجتماع والنفس والسلوك والبيولوجيا، ووفق روحانية تهبها الأديان دون الحاجة لحارس لها.

الفضيلة بهذا المفهوم شأن إنساني أخلاقي جرى الحديث عنه في الفلسفات والقوانين ومشاريع الإصلاح، وحتى قبل ظهور أديان التوحيد، ما يحيلنا إلى تتبع مفهوم هذا المصطلح (الفضيلة) في كتابات الفلاسفة وممن أوتوا الحكمة، حيث يقول الله تعالى: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ. بما يعني أن الحكمة يؤتيها الله من يشاء من عباده، وليست مقتصرة على دين أو مذهب معين.

في كتابيه «الأخلاق إلى نيقوماخوس» و«السياسة: أطروحات في الفلسفة العملية» يركز أرسطو على «الفضيلة» كقيمة أخلاقية تشكل محور المجتمع الإيجابي السعيد، فيرى أنها الفعل المؤثر في مسائل السلوك «ليس من أجل أن تعرف ما تكونه الفضيلة، بل من أجل أن تكون إنسانا صالحاً» والمرء يصبح صالحاً بأن يحسن الاختيار والفعل.

وهذا لا يعني، وفق أرسطو، مجرد اختيار الأفعال الصائبة والقيام بها، بل يعني اختيارها والقيام بها بالطريقة الصحيحة: «بل إنني قد أقوم بأفعال فاضلة، دون أن أكون قادراً على السلوك بشكل فاضل، وتشترط الحكمة العملية، الضرورية للحياة الكريمة، المهارة في حساب أفضل الوسائل في تحقيق أهداف المرء»، وهذه فضيلة فكرية، «لكن الغايات المفترضة من التدبر إنما تؤسسها الفضيلة الأخلاقية. وغاية كل الأفعال، الخيِّرة للإنسان، هو السعادة».

ورد ما يشير إلى «الفضيلة» في القرآن والفقه الإسلامي عبر اشتقاقات مثل «الفضل» أو «الفضائل» التي من المفترض أن يتمتع بها الإنسان كي يسهم في سعادة وخير الجميع، دون أن ينأى هذا المعنى عن الالتباس والفهم الخاطئ. في مقالة بمجلة رسالة القلم العدد 47 للعام 2016، يذهب الشيخ قاسم عبدالكريم جاسم في رؤيته لمفهوم الفضائل وما يعتريه من التباسات مفهومية بقوله: «ربما تحولت الفضائل إلى أضدادها في فهم الناس أو في بعض الأفعال، ولهذا يقال: إنّه ما من فضيلة من فضائل الإنسان إلا ولها رذيلة من شكلها، ولا رذيلة إلا ولها فضيلة من جنسها.

وهذا هو السبب في صدور الأحكام الخاطئة من الناس، فربما ينسب إلى إنسانٍ ما الفضيلة التي هي من شكل الرذيلة أو الرذيلة التي هي من جنس الفضيلة، كما يُحكم في بعض الأحيان على الحازم المتأني بأنه رعديد جبان، أو على المقتصد المدبر أنه بخيل شحيح، وعلى المبذّر المسرف أنه جواد كريم، أو على الوقح قليل الحياء أنه جريء صريح، أو على الطائش المتهور أنه شجاع مِقدام».

ثمة سلوكيات كانت جزءاً من طبائع المجتمعات أو من أخلاقيات الحروب في زمن ما، مثل الرِّق والاستعباد، وسبي النساء والممتلكات في الحروب، ثم أفضى التطور الحضاري والترقي الإنساني إلى اعتبارها ضد الفضيلة وجرائم ضد الإنسانية، في الحرب أو في السلم. كما خرج حكماء في قلب الرسالات السماوية عبروا عن رؤيتهم العقلانية لهذه الفضائل، فيهتف الفاروق عمر بن الخطاب ـ في زمن لم يُجرّم فيها الاستعباد بعد ــ في وجه عمرو بن العاص، حاكم مصر: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتم أحراراً».

أو حين يقول علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: «والله لو كان الفقر رجلاً لقتلته». وكل تصورات لمعنى الفضيلة أو الفضائل الإنسانية عَمِل البشر على مدى التاريخ في تفريغها في قوانين ودساتير تحاول أن تشرع هذه الفضائل وتجعلها من صميم الاتفاق الجمعي على تحسين الحياة لكل الأحياء فوق الكوكب، فأصبحت حقوق الإنسان، وحق المواطنة، وحرية التعبير، والنزاهة، وإتقان العمل، والحفاظ عن البيئة، والعدالة الاجتماعية، من الفضائل التي سعى التطور الحضاري إلى تكريسها. ومؤسسات مثل الهلال الأحمر، والصليب الأحمر، وأطباء بلاحدود، ونشطاء البيئة، ووكالات الإغاثة، وغيرها، تمثل الآن أهم الفضائل مجسدةً في الكوكب، ودون الحاجة لحراس لها.

دون أن ننسى الإشارة إلى ظهور علم هام، وهو علم النفس السلوكي، وتطور علوم نفسية وفسيولوجية درست السلوك وفق المؤثر والاستجاية وبيولوجيا الجسد، ووفق ما يحدث في الدماغ والجهاز العصبي، وعلى مرّ القرون، كان الاعتقاد الدارج أن الدماغ عديم الفائدة (بعكس الأعضاء الأخرى)، وكان يُنظر لوظائف الجسم من وجهة نظر دينية، فيعتبرون الأرواح والشياطين والسحر مسؤولة عما يحدث للبشر من عيوب خَلقية وخُلقية، لكن مع تطور العلم التجريبي والنظريات العلمية والطب، بدأت تظهر علوم جديدة كعلم التشريح وعلم وظائف الأعضاء، واحتل الدماغ مركز الاهتمام كجهاز مسؤول عن كل ما يعتري الجسم والنفس من علل، واستغرق الباحثون مئات السنين حتى توصلوا إلى فهم الدماغ واكتشاف دوره الأساسي في تأثيره على السلوك الإنساني.

فقد ننزع الفضيلة عن سلوك شخص رغم أن اضطراب سلوكه ناتج عن خلل في التفاعلات الكيميائية والكهربية في الدماغ والخلايا العصبية، أو لعوامل جينية، أو خلل في الغدد والهرمونات والإنزيمات التي تعمل بإيعاز من الدماغ وتتحكم في الاستجابة للمؤثرات والسلوك، وأصبحت بعض الحالات تعالج بالجلسات التحليلية، أو بعقاَر مناسب.

هذا الاهتمام الكبير بالعلاقة بين الجهاز العصبي والسلوك أدى إلى نشوء عدة علوم لدراسة تلك العلاقة، مثل: علم النفسي العصبي التجريبي، وعلم النفسي العصبي السريري، وعلم النفس العصبي الإدراكي، وعلم النفس البيولوجي، وغيرها. وبقدر ما نحترم اللقاحات الحديثة ونسعى للحصول عليها لأنها قضت على أوبئة فتاكة، علينا أن نحترم هذه العلوم وننميها في ثقافتنا ومؤسسات التعليم المختلفة، حتى لا نُلقي أحكامنا، وأحياناً عقابنا، على أشخاص لا يتحكمون ـ لأسباب بيولوجية خارجة عن الإرادة ــ في سلوكهم.

أتمنى أن أرى (بشريات سارة) للهيئة العامة للأوقاف والشؤون الإسلامية، تعلن فيها عن حملات تشجير، أو نظافة الشواطئ والفضاء العام، أو دعوات إلى وقف قطع الأشجار وسلخ التربة الزراعية وهدر المياه العذبة، ووقف استيراد السلع المسرطنة والأدوية المزيفة، وإصدار الوثائق والشهادات المزورة التي تصدر كل يوم، وإماطة الأذى عن الطرق التي تقام فوقها كل يوم المطبات وتبني على حوافها المباني المخالفة، وغير هذا مما يمكث في الأرض، أما ما يتعلق بالهداية والضلال والاطلاع على ما تنطوي عليه الأفئدة فهذا من شأن الله وحده.

وفّق الله كل الساعين بصدق إلى سلامة ورفاه وسعادة وحرية الوطن والمواطن.

مقالات الرأي تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي «بوابة الوسط»