Atwasat

المستبد العادل

عمر الكدي الإثنين 29 مايو 2023, 01:51 مساء
عمر الكدي

منذ أربعة عشر قرنا لا يزال العرب في انتظار المستبد العادل، وهو تعبير ظهر في مطلع القرن العشرين عندما نشر الشيخ محمد عبده مقالا عنوانه «إنما ينهض بالشرق مستبد عادل». نُشر المقال في مجلة الجامعة العثمانية العام 1899، بعد عودة الشيخ من باريس حيث أصدر هناك مع جمال الدين الأفغاني مجلة العروة الوثقى، وقبل أن يعين مفتيا للديار المصرية، ومنذ ذلك الوقت والعرب في انتظار هذا المستبد العادل، الذي كما كان يعتقد الشيخ عبده بإمكانه أن يصنع خلال خمسة عشر عاما، ما لا يصنع العقل وحده خلال خمسة عشر قرنا، وبالتأكيد فإن الشيخ الجليل قد اطلع على النظام السياسي في فرنسا خلال إقامته هناك، ولكن يبدو أنه لم يتأثر بهذا النظام مثلما تأثر به مواطنه رفاعة الطهطاوي الأزهري، الذي كان منبهرا بما رآه في فرنسا عندما رافق أول بعثة للطلاب العسكريين الذين أرسلهم محمد علي العام 1826، بالرغم من أن وظيفته في هذه البعثة باعتباره
 كان يعمل إماما في الجيش، الحفاظ على الطلاب المبعوثين من التنصر، أو التأثر بمجتمع الفرنجة، إلا أن فيروس الحداثة اختار الطهطاوي وترك جميع أولئك الطلاب، وعاد إلى مصر لينشر كتابه «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، الذي اعتبر رائد المشروع النهضوي العربي، ذلك المشروع الذي ظل ينهض ويكبو حتى وصل إلى هذا الحضيض.
أُدرك أن الشيخ محمد عبده غير رأيه فيما بعد، ولعله بعد عودته من فرنسا أدرك استحالة غرس الديمقراطية في تراب المسلمين، بالرغم من دوره كرجل دين مستنير عندما عين مفتيا للديار المصرية، وسجالاته مع شيوخ الأزهر الذين رفض معظمهم الحداثة جملة وتفصيلا، أو ربما كان لا يزال تحت تأثر رفيقه جمال الدين الأفغاني الذي رفض العلمانية في كتابه «الرد على الدهريين» الذي كتب الشيخ عبده مقدمته، إلا أن ما عبر عنه في مقاله لا يزال أمل الكثر من المسلمين حتى الآن.

وبالتأكيد فإن المستبد العادل في مخيال معظم المسلمين هو الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، وإلى حد ما الخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز، ثم لا أحد، أي أن هذا النموذج فاشل إحصائيا، فمن بين آلاف الحكام من عرب وفرس وأتراك وأكراد وأمازيغ وسنة وشيعة وفاطميين وزيدية لم نتذكر إلا اثنين يمكن وصفهما بالمستبد العادل، وأي دراسة جدوى ستكون نتيجتها الأكيدة الرفض الحازم لهذا النموذج.

لعل المعاصرين من العرب يتذكرون جمال عبدالناصر باعتباره مستبدا وعادلا، وغيرهم يحن إلى صدام حسين والقذافي وربما علي عبدالله صالح وعمر البشير وحافظ الأسد، وهو ما يؤكد عدم قدرة العرب على التفكير خارج هذا الصندوق المقفل منذ القرن السابع الميلادي، فكل شيء جيد قد حدث في الماضي، ولا يمكن استعادته إلا بالعودة إلى الماضي، وأستغرب لماذا لم ينتبه هؤلاء إلى نماذج مثل رئيس وزراء ماليزيا الأسبق مهاتير محمد، وإلى رئيسة وزراء سنغافورة الحالية حليمة يعقوب المنحدرة من أصول حضرمية يمنية؟، ولماذا تنجح حليمة خارج اليمن وتفشل بقية الحليمات داخل اليمن؟.

مصطلح «المستبد العادل» وجد في المجتمعات الأوروبية خلال عصر الأنوار، ودعا إليه المفكر الإنجليزي جون ستيوارت ميل في كتابه «عن الحرية» العام 1851، وأطلق عليه اسم «الحكم المطلق المستنير»، وقال فيه «إن الحكم المطلق المستنير ضروري لمواجهة الأفعال البربرية بفعل الجماهير»، كما دعا إليه المفكر الفرنسي فولتير قبل ذلك، واشترط في المستبد المستنير أن يؤمن بالتسامح والحريات العقائدية والتحرر من سلطة رجال الدين، ويفصل بين ما هو أرضي وما هو سماوي، ولكن هذه الآراء تجاوزتها الأحداث مع ظهور مصطلح «العقد الاجتماعي»، الذي أسس لمفهوم المواطنة.

العقل في منطقتنا عقل سلفي بامتياز، يستخدم تلسكوبا ليس لينظر إلى الأجرام والنجوم البعيدة، وإنما لينظر إلى الماضي السحيق حيث يعتقد أن العدل والمساواة ما زالا هناك، ولأنه يستخدم تلسكوبا سلفيا فلا يمكنه النظر إلى الاجتهادات القريبة منه، مثل كتاب عبدالرحمن الكواكبي «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» الصادر العام 1931، وكتاب الشيخ الأزهري علي عبدالرازق «الإسلام وأصول الحكم« الصادر العام 1924، والذي طرد بسببه من الأزهر لمجرد أنه قال إن الإسلام لم يأت بنموذج محدد للحكم، ولكنه ترك ذلك للناس الأحرار، ولأن الناس غير أحرار فهم يفضلون المستبد العادل، ويستخدمون التلسكوب السلفي للبحث عنه، ولا يخرجون في مظاهرة تنديدا بمنع سفر النساء الليبيات دون محرم، هل هي يا ترى بربرية الجماهير كما وصفها جون ستيوارت ميل؟، وماذا نفعل مع شعب ظل أكثر من أربعين عاما في ظل عصر الجماهير، وعندما انتهى هذا العصر وجد قائده نفسه وحيدا في مواجهة بربرية الجماهير التي هتفت له «بالروح بالدم» ثم سفكت دمه وأخرجت روحه، وعندها أدرك كم هو مستبد وعادل ومستنير.