Atwasat

العاصمة والمدن

رافد علي الخميس 25 مايو 2023, 03:40 مساء
رافد علي

بين هجوم حفتر على طرابلس ومحاولة اجتياح الباشاغا لها زمن قصير مر من عمر حقيقتنا المعاشة بمرها الذي يتجرعه المرء على ضفاف المحال. فرغم الاعتداء في الأولى والتحرش السياسي في الثانية برزت في الأوساط العامة حينها، وما زالت تلوح في مرات عديدة الجدلية المتجددة حول طرابلس كعاصمة، وانتقاد أحقيتها في ذلك بأساليب لم تخلُ من الشعبوية وحتى المزايدات.

طرابلس! عاصمة! مدينة ما زالت مختطفة وبؤرة لتمركز السلطات، وهنا تتعزز الآراء المنتقدة للمركزية وللتهميش في ظل الفوضى والفساد والتسيب الإداري. يكشف التاريخ أن طرابلس كانت غالباً بؤرة مركز وموارد، وهذا هو المفهوم التقليدي البائد للعواصم. العاصمة اليوم، كمفهوم، شيء آخر تماماً، يتجاوز الثقافة والموارد ومركزية السلطات وفق المنظور العصري. المدن اليوم صارت كاريزمات تفرض نفسها على الواقع خلافاً للجغرافيا ونقضاً للتاريخ فيها. جلاسكو أمام لندن، نيويورك أمام واشنطن، وموناكو أمام باريس، جميعها مدن تفرض ذاتها على تلك العواصم. صحيح أن العاصمة قد تسيطر ذات لحظة تنافس، لكنها تتلاشى ذات لحظة أخرى في مجال مغاير أثبتت فيه أخريات ذاتها في اختصاص مختلف خلق منها حالة تميز تغالب فيه العاصمة بالذات، رغم صيتها أو جبروت اسمها على الأسماع.

من أحد محاور البؤس العربي الراهن أننا بشر ما زلنا نعيش محنة الأوصاف والألقاب كعاصمة ومثقف ونخب وحتى نظم سياسية. دلالات الأشياء مبهمة في وعينا، لكننا مستعدون للتحارب بشأنها، وعدتنا في ذلك هو تخلفنا وأنفسنا الممحونة بذاتها، كشعوب ما زالت ترفض أن تستوعب حاضرها المأزوم. ليبيا بشتاتها المعاش، بكل الحقد والدم والتلاعب المسيس فيها، سنظل بهذه الصورة عالة عليها، وألعوبة يتبادل عليها الغير ورجالات الصدف الأدوار، إذا ما استمررنا بهذه النمطية المتصادمة المعوزة ليقظة حقيقة تبني المدن بخاصيتها وشخصيتها.

نحن حتى التو ما زلنا أسرى الأوصاف، ومدننا وعاصمتنا خارج نطاق معايير العواصم الفنية المتعلقة بالبنى التحتية المتربصة بالعشوائية. كما أن للمعايير الأدبية عوزا شديدا أيضاً وهي المتعلقة بالسلوكيات الراقية كاحترام قانون المرور وآداب القيادة والاعتراف بحقوق المترجل والدراج على سبيل الذكر لا الحصر. نحن لا نفكر بهذه الطريقة، بل نتخاصم ونصب اللعنات على بعضنا في مستنقعنا الذي صار يضيق بنا وبأحقادنا المدمرة ونعراتنا المتطرفة بكرهها ونعوتها، اعتقاداً منا بأننا، بما عرفناه من سردياتنا المبجلة اجتماعياً، بأننا أصحاب شأن ومشاريع، رغم أن واقع حقيقتنا اليوم أننا كليبيين خارج نطاق سيرورة ناضجة فعلاً ليومها وحاضرها.

لقد أضحت المدن الذكية كبرشلونة وأمستردام فضاءً معرفيا يستعين بالتقنية في كل المجالات في يقظة فكرية مواكبة للعصرنة وللحداثة من خلال التخطيط والاستشراف، لتكون فضاءً للتعايش السلمي والتركيز أساساً على التنمية المستدامة لتحافظ على رقيها وتعزيز استقرارها وازدهارها، متجاوزة الأساس البنيوي الراسخ في أية مدينة بأن التحضر أو التمدن حالة عقلية واعية وسلوكيات متحررة من عقد الذات المنغلقة والمنشغلة بالعيش في بؤس الأوصاف والمسميات المزورة.

مفاهيمنا عن مدننا ما زالت قاصرة على استيعاب خواصنا كمجتمع، بل يبدو فهمنا بالخصوص فهما محدودا جدا أمام مبادئ الحداثة في فهم الذات، بل يمكن القول إنها، أحياناً كثيرة، مفاهيم متلاشية تماماً أمام حقيقة عبثية ما بعد الحداثة بالثابت والمتحرك بشكل عام. نحن فعلاً دول متخلفة، والمثير، أننا نُصّر على إبرام النار في ثوبنا، ظناً منا بأننا نتخلص من الآخر المغتصب أو الظالم، رغم أن ذاك الآخر بات شريكاً حقيقياً في القطرية التي ما زالت عماد دولنا بالمنطقة، والتي باتت موصومة عدة بقاع فيها بأنها تعيش لحظتها التاريخية الحرجة، وليست الحاسمة قطعاً، لأنها لحظات موصومة بالدماء المهدورة في صدام أحمق وفق مكر التاريخ.

نحن بواقعنا الراهن، وبشوائبه الحية من شِقاق حاد يبرز عند الحديث عن العاصمة، يبرهن الحال فيه بأننا دون مستوى اللحظة المعاشة وحمولاتها التاريخية للقادم، وهذا لا يُرد بأننا خارج التاريخ كظاهرة عامة وحسب، بل يُعلل حالنا لأننا ما زلنا في حالة غفلة عن أنفسنا ومدننا التي نقطن ونتعارك لأجلها، ولأننا في تيهٍ عن مصيرنا فيها كمحنة، وسيد حالنا في أزقتها الجهل بالعالم من حولنا وكل التربصات فيه، ولهذا ليبيا برمتها ستظل متحاربة ومشتتة ومنقسمة وصامتة كالصنم.

يقول المرحوم عبدالرحمن منيف في إبداعيته مدن الملح: «وتقوم مدن الملح، ترتفع وتكبر، وإذ جاءها الماء: فش، ولا كأنها كانت».