Atwasat

مسيرة التعليم في ليبيا: الانتشار والانحدار

إبراهيم حميدان الأربعاء 24 مايو 2023, 02:50 مساء
إبراهيم حميدان

التعليم أساس نهضة الأمم وتقدمها، وعبر الاهتمام بالتعليم وتطويره يتحقق الازدهار للدولة في كافة المجالات، وقد كشف المنتدى الاقتصادي العالمي في «دافوس» في منتصف العام الماضي 2022 التصنيف الجديد الذي يقيس جودة التعليم في 140 دولة حول العالم، واعتبرت ليبيا خارج التصنيف، إضافة إلى 4 دول عربية أخرى هي الصومال واليمن وسورية والعراق، وأُرجِع السبب إلى غياب أبسط معايير جودة التعليم فيها، وقد أثار هذا الإعلان الكثير من النقاش حينئذ حول أسباب تردي أوضاع مستوى التعليم في البلاد، ومن يتحمل مسؤولية هذا الأمر. 

وفي محاولة  لامتصاص هذه الصدمة، أعلنت وزارة التعليم في حكومة «الوحدة الوطنية» تشكيل لجنة لفحص المناهج وتوحيدها والتأكد من محتواها، وتهيئة الظروف المناسبة لاستعادة العملية التعليمية. وليس لديَّ معلومات عما إذا كانت قد صدرت نتائج لهذه اللجنة أو دعت لاتخاذ إجراءات محددة في سبيل النهوض بالعملية التعليمية.

تذكرت هذا الأمر وأنا أقرأ كتاب المهندس نورالدين الثلثي (التعليم في ليبيا... قراءة في سياقه التاريخي) الصادر عن دار النخلة أواخر العام 2022 الذي يقدم دراسة مهمة وموثقة حول مسيرة التعليم في بلادنا منذ العهد العثماني مروراً بالاستعمار الإيطالي والإدارات الأجنبية وصولاً إلى استقلال البلاد وما أعقبه من تحولات خلال العقود التالية. 
يتطرق الكاتب إلى التطور الذي شهدته ليبيا منذ العهد العثماني الذي كانت فيه ليبيا ولاية عثمانية تحت اسم طرابلس الغرب، حيث يصف التعليم خلال هذه المرحلة بأنه كان تعليماً دينياً له فضل  كبير في المحافظة على الهوية الإسلامية واللغة العربية عبر مدارس تعليم القرآن.
تُرك التعليم خلال العهد العثماني للهيئات الدينية التي تشرف عليه وتتولى تمويله، وقد استمر الحكم العثماني ثلاثمئة وستين عاماً تخللها العهد القرمانلي الذي أنشأ أسطولاً بحرياً ذا شأن كبير في البحر المتوسط، يؤمن سلامة السفن ويجبي الضرائب، وعلى الرغم من أن القرمانليين حققوا تحسناً اقتصادياً ملحوظاً لكنهم لم يهتموا بالتعليم كما حدث في مصر في عهد محمد علي، وظل  التعليم مهملاً معتمداً بشكل أساسي على الكتاتيب والزوايا والرباطات، مع ما توفر من تعليم لأعداد من الليبيين توجهوا إلى الجامع الأزهر في مصر وجامع الزيتونة في تونس إلى أن حل الغزو الإيطالي. 

التعليم خلال مرحلة الاحتلال الإيطالي والإدارتين الإنجليزية والفرنسية 

مرت السياسات التعليمية الإيطالية في ليبيا بمرحلتين الأولى مرحلة الحكومات الليبرالية عقب الحرب العالمية الأولى، وخلالها انتهج الإيطاليون سياسة تصالحية مع الليبيين تسمح بالمحافظة على ثقافة ولغة ومعتقد السكان العرب الليبيين، فأنشأت المدارس الثانوية (المتوسطة) لليبيين ومدارس البنات والمدارس الفنية والزراعية، وعوملت الكتاتيب معاملة المدارس الحكومية. ثم جاءت المرحلة الثانية مع وصول الحزب الفاشستي إلى الحكم في إيطاليا سنة 1922، حيث تم التراجع عن السياسة التصالحية، فأقفلت المدارس فوق الابتدائية الخاصة بالليبيين، وأعيد التدريس باللغة الإيطالية لجميع المواد عدا اللغة العربية والدين، وأقفلت الزوايا السنوسية وصودرت ممتلكاتها، وألغي كل وضع تشريعي متعلق بغيرها من الزوايا والكتاتيب (ص87).
وينقل المؤلف عن أندريا فستا مدير التعليم في طرابلس بين سنتي (1930-1934) أنه قد صدرت بين سنتي 1924-1928 قوانين أنشأت نظام تعليم مستقل خاص بـ«السكان المحليين» يسعى لإخضاعهم «إخضاعاً معنوياً سلمياً وغرس الإعجاب بإيطاليا والإخلاص لها». (ص88)
التعليم في نهاية العهد الإيطالي كان محصلة سياسات عنصرية استعمارية تمثلت في المدارس الإيطالية العربية والمنظومة التعليمية التربوية الفاشستية التي أنشأها بالبو، ومؤثرات ثقافية تمتد جذورها إلى العثماني، تمثلت في المنهج التعليمي للكتاتيب التي وفرت التعليم للغالبية العظمى من التلاميذ.
ولذلك ليس غريباً أن تكون  ليبيا عند رحيل الاحتلال الإيطالي البلد الأفقر في أفريقيا، نسبة الأمية بها  ما بين 90 و95 %، متخلفة في اقتصادها، وتعوزها الخبرة في التنظيم والإدارة (ص96) 
عقب هزيمة إيطاليا في الحرب العالمية الثانية أصبح إقليما برقة وطرابلس كإقليمين منفصلين- وليس -«ليبيا الإيطالية»- تحت إدارتين عسكريتين بريطانيتين، وإقليم فزان تحت الإدارة الفرنسية، إلى حين البت في مصير المستعمرات الإيطالية من قبل الأمم المتحدة.

حكمت بريطانيا إقليمي طرابلس وبرقة وفق أهداف واستراتيجية مختلفة، ففي إقليم طرابلس كانت تسعى إلى المحافظة على الأوضاع كما هي عليها إلى حين انتهاء مدة إدارتها وتسليمها مجدداً لإيطاليا، الأمر الذي ترتب عليه الإبقاء على التعليم الإيطالي بمدارسه الإيطالية لتعليم الإيطاليين، والمدارس «الإيطالية العربية» لتعليم الليبيين.
في برقة اختلفت سياسة بريطانيا تماماً عن سياستها في طرابلس، فقد كانت مصالحها تقتضي عدم السماح بعودة إيطاليا إلى برقة، وكانت علاقتها بالسيد إدريس السنوسي الذي كان يسعى إلى استقلال برقة بالتحالف معها عاملاً رئيسياً في تشكيل السياسة البريطانية تجاه الإقليم وإعلان استقلال إمارة برقة في 1 مارس 194. جرت إدارة التعليم في برقة بمشاركة ليبية فاعلة. لم يبق في برقة بعد الحرب إيطاليون ومدارس خاصة بهم، وجرى تبني نظام التعليم المصري منذ البداية.
أما في إقليم فزان فقد اعتمدت السلطة الاستعمارية الفرنسية النظام التعليمي المعمول به في مستعمراتها في شمال أفريقيا.

الدولة ومنظومة التعليم الوطني

في الفصل الرابع الذي حمل عنوان «الدولة ومنظومة التعليم الوطني» يتطرق المؤلف إلى مسيرة التعليم الوطني منذ تأسيس دولة الاستقلال سنة 1951حين كان عدد سكان ليبيا لا يتجاوز المليون وخمسين ألف نسمة ولم يكن عدد الذين يعرفون القراءة والكتابة يتجاوز المئتين وخمسين ألفاً. انطلقت الدولة الليبية في بناء المؤسسات، التي من بينها المؤسسات التعليمية، معتمدة على المساعدات الأجنبية، وعلى إيجار القواعد الأجنبية، وعبر سرد مدعم بالأرقم والإحصاءات يوضح المؤلف تطور ونمو التعليم الأساسي والمتوسط منذ 1951 وحتى 1961 كما يشير إلى تزايد أعداد الطلبة والمدارس في مرحلتي التعليم الإعدادي والثانوي وكذلك يتطرق إلى رياض الأطفال ومعاهد المعلمين والتغذية المدرسية والتعليم الفني والخاص الذي عرفته العملية التعليمية في أواخر القرن العشرين، كما يشير إلى تأسيس الجامعة الليبية، والنهضة النسائية وتعليم البنات، ويتناول بالأرقام عملية الإنفاق على التعليم منذ الاستقلال وحتى العام 2018.
ويرصد الكاتب منجزات التعليم التي يراها تتمثل في زيادة عدد الملتحقين بالمدارس والجامعات والمعاهد العليا وكذلك عدد الطالبات بالمرحلة الجامعية كما يلاحظ استمرار انخفاض نسبة الأمية.

وبقدر ما يسجل الباحث نجاح الدولة في تأسيس منظومة التعليم الوطنية ونشر التعليم وتوسيع مراحله إلا أنه يلاحظ أن مسألة تطوير العملية التعليمية لم تحظ باهتمام يذكر في أي وقت بل إن العملية التعليمية تجاوزت مرحلة التراجع النسبي في الجودة، إلى مرحلة الانحدار الكبير، ويرى أن الإدارة الليبية بعد أكثر من عشرين عاماً على تأسيسها كانت بحاجة إلى تعزيز قدراتها، وكفاءتها وتدريب موظفيها، لكن، على العكس من ذلك، أصابها ضرر كبير بتعطيل القوانين وقيام الإدارة الشعبية و«تصعيد» اللجان الشعبية لإدارة المؤسسات، بما فيها المؤسسات التعليمية من جامعات وكليات ومعاهد ومدارس دون اعتبار لمتطلبات القانون - وقد عُطّل- واللوائح والتسلسل الإداري ومؤهلات الوظيفة والشروط اللازم توفرها في شاغليها (ص170) 

ومن مظاهر انحدار جودة التعليم يرصد المؤلف ضعف القراءة والنطق السليم في جميع مراحل التعليم، يصاحب ذلك ضعف الكتابة تعبيراً وإملاءً ونحواً وخطاً، ويعزو هذا الأمر إلى تدني المستوى العلمي للمعلم والاعتماد على الحفظ والتلقين طريقة للتدريس. إضافة إلى استفحال ظاهرة الغش في الامتحانات، والزيادة الكبيرة في أعداد المدرسين الاحتياطيين، وأيضا الأعداد الكبيرة في الموظفين والإداريين والفنيين العاملين في قطاع التعليم الأمر الذي أدى إلى استنزاف مرتبات الجسم الوظيفي المتضخم لمخصصات القطاع، بينما كان الأجدى الإنفاق على تدريب المعلمين وتجهيز المرافق المعملية وإنشاء المكتبات والمسارح والاهتمام بالجوانب الثقافية المهملة علاوة على صيانة المرافق التعليمية التي أصبح الكثير منها غير صالح لتلبية الاحتياجات المتزايدة من الطلاب من جوانب الصحة والنظافة والتهوية ومياه الشرب ودورات المياه (ص174).
في الفصل الخامس والأخير يتناول المؤلف «التغير ومنظومة القيم» فيعرف الثقافة والتغيرات الثقافية عند كل من عالمي الاجتماع جيرد هوفستيد وجورج بيتر مدوك، ويستنتج أن نموذج ميردوك هو الأقرب إلى وصف وتفسير ما جرى عندنا في عقود ما بعد رحيل الاستعمار الإيطالي من أحداث وتغيرات ثقافية ترتبت عليها، وأثرت بدورها، في التعليم والتنمية الاقتصادية والاجتماعية (ص185).
ثم يتطرق إلى الأثر السلبي للموروث العثماني، ومن ثم الاستعمار الإيطالي على تشكل الثقافة الوطنية ومنظومة القيم، إلا أنه يلاحظ أنه على الرغم من النهج العنصري الإيطالي في التعليم الذي سخره لخدمة أغراضه؛ فإن هذه الحقبة الاستعمارية فتحت أيضاً باباً للاحتكاك بالحضارة الأوروبية المعاصرة وتكونت من خلاله نخبة حداثية كان لها دور مهم في المرحلة التي تلت رحيل إيطاليا عن البلاد (ص187)
ينتقل المؤلف إلى مرحلة الحكم الملكي وما شهدته في البداية من مساعٍ لبناء منظومة التعليم الوطنية بمشاركة واسعة من الشباب والشيوخ والعائدين من المهجر، ثم التحولات الكبرى التي كان لها أثرها في إحداث تغيرات في ثقافة مجتمع زراعي رعوي تقليدي، وظهور النفط، وتحول الاقتصاد الوطني إلى اقتصاد ريعي، وأصبح الحاكم المتصرف في الثروة سلطة مطلقة، واتجه المواطن للدولة كي توفر له سبل العيش من مرتب ورعاية صحية وتعليم والدعم لاستهلاكه اليومي من غذاء وكهرباء ووقود، وتدنت قيم التعلم والعمل، وتغيرت قواعد السلوك، ولم يكن التعليم بمعزل عن هذه التحولات أو محصناً ضدها (ص192)

يختتم المؤلف دراسته المهمة، الموثقة والمدعمة بالأرقام والإحصاءات والمصادر ذات العلاقة، بالدعوة إلى نظام تربوي جديد ينمي لدى النشء شغفاً بالقراءة وقيم الصدق والأمانة والمثابرة والإتقان والوقت والانضباط واحترام الآخر، وروح التنافس والسعي والتمييز والتفوق، ويضيف: «التعليم المنشود رهن أيضاً بتغييرات سياسية مؤسسية تتمثل في سيادة القانون ورشد الإدارة، وإحلال مبدأ الاستحقاق محل القبلية والجهوية والمحاباة والمشاركة الواسعة في صنع المستقبل» (ص203).