Atwasat

كنت وما كنت ولكن شبه لي!

أحمد الفيتوري الثلاثاء 23 مايو 2023, 11:58 صباحا
أحمد الفيتوري

"كُنت مثالياً. فمنذ عودتي من مصر سنة 1957، وأنا أنظر إلى ليبيا نظرة تقديس. كنت أرى البشر فيها كآلهة الأوليمب، لا يسقطون، وإن سقطوا فسقطتهم تهز الأعماق، ويأتي بعدها التطهير المطلق!، كنت أراهم مُجردين من خطايا البشر. صدقني إذا قلت لك: إنني كنت أنظر فأرى كناساً ـ مثلاً ـ يكنس الشوارع، فأود لو أجري مُقبلاً يديه. صدقني أنني وصلت بنغازي، ورأيت بيوتها مهدمة من أثر الحرب، ورأيت النفوس مطحونة ولكنها معاندة وصلبة، فأحسست وكأنني هبطت إلى مستقر أبطال طروادة".
عبد الله القويري
-  عبد الله القويري مفكر يُبدع في الأدب والفن ـ أحمد محمد عطية ـ دار المستقبل العربي ـ القاهرة ـ 1992م .
 
 • سيرة مصرية
فول مدمس في علب كما عصير المانجا، من منتوج شركة قها المصرية، ما يبيع أبي في دكانه، بدكاكين حميد في حي الصابري ببنغازي، أو في المدرسة الابتدائية، لما درسنا المنهج المصري، حيث سرحان يسرح في الغيط، في كتاب المطالعة، تحت شجرة جميز يلتهم الجوافة، وكان مدرسنا المصري أيضا، يصرخ في وجوهنا: بصوا لأدام، نلتفت إليه غير عارفين مقصده، بمثل هذا كما أظن عرفت مصر. مصر المسربلة عبر الأغاني التي يذيعها الراديو، من الإذاعة الليبية كل صباح، وفي المساء يحول أبي مؤشر الراديو على الإذاعة المصرية، وفي سنوات مضافة لعمري أضاف خالي "خليفة الغرياني" السينما، دار عرض الحرية، حيث كشكه ما يبيع سندوتشات التن وكازوزة سينالكو/ الدنيني، وكانت جلّ الأفلام مصرية، في هذه الحالة تسنى لي أن أذوق الطعمية في سندوتشات مطعم بوعشرين.

لي زملاء في المدرسة وحتى جيران، "عائدون" كنيتهم الاجتماعية في البلاد، أغلبيتهم عادوا من مهجرهم في مصر، كنا في الطفولة والصبا ننعتهم بـ "فوالة"، باعتبار أنهم يحبون أكل الفول المدمس. من هؤلاء "الفوالة" صديقي المقرب والمفضل "احميده المصري"، الأكثر معرفة وجراءة وتحدٍ، كنت أغبطه كشجاع وأتعلم منه، حتى شككت في أن بواعث شجاعته أكله: الطعمية والفول المدمس، جيراننا "عائلة عزوز"،عائدة من مصر، شدني ولع بانفتاحهم الاجتماعي وسفور نسائهم.

كنت قد أدمنت مجلات الأطفال: سندباد وسمير وميكي المصرية، غدت اللهجة القاهرية اللهجة العربية المعيارية في مصر وبلاد العرب أوطاني، بفضل اسماعيل ياسين ممثلي المفضل ومطربي عبد الحليم حافظ ثم مواويل محمد طه ومسلسلات إذاعة الشرق الأوسط الملتقطة على الموجة المتوسطة في راديو الترانزستور ما ملكت غبّ نجاحي المدرسي. كان جمال عبد الناصر بخطبه العروبية النارية، قد أشعل عاطفة أهلي، خاصة أبي، من أفقده زعيم العروبة عقله، لقد تم حشوي نفسي بجنون أبي، من ألبسني بدلة ناصر العسكرية، مما أسر روحي الطفولية. 

لقد أصبحت مصريا في المدرسة: سرحان في الغيط تحت شجرة الجميز، ما لا نعرف كنهها، تلك "المطالعة" كما إنجيل طفولتي. بعد المدرسة في الشارع نلعب عسكر وحرامية، ما بطلها الفائز ناصر متلفع بأناشيد مثل: بلاد العرب أوطاني/ من الشام لبغدان/ ومن نجد إلي يمن/ إلى مصر فتطوان/ فلا أحد يباعدنا/ ولا دين يفرقنا/ لسان الضاد يجمعنا/ فهبوا يا بني وطني/ إلي العلياء بالعلم. ذا النشيد نظم فخري البارودي ولحن الأخوان فليفل.  

•  سيرة ليبية    
الطفل تاه، الطفل تاه، كانت صرخة أبي تدوى، ولا يردد صداها سوى خالي، المتيقن من أن ابن أخته التائه سيعود لا محالة، خالي العارف بشغفي الطفولي بالألوان والموسيقى، وبولعي بالزحام، خاصة وأن أبي مخافة أن أتوه!، لم يوافق على أن أكون رفقة رفاقي، فريق "مدرسة الصابري الابتدائية"، المشارك في احتفال مدينتي بنغازي بعيد استقلال ليبيا العاشر. عندما تسللت من بين يدي أبي، كنت في سنة أولى ابتدائي تتلبسني روح السندباد، فلقد فككت الخط وطالعت عند ابن الجيران، أعدادا من مجلة "سندباد" المصرية، التي أنشأها ورأس تحريرها "الأديب محمد سعيد العريان". وقبل درست في كتاب "مسجد دكاكين حميد"، حيث يوجد أيضا دكان أبي، من يقفل دكانه حيث يوم الاستقلال عطلة، وهو متيم بتلك المناسبة، ولا يفوته مرة حضور الاستعراض الرسمي والشعبي.

-  المحافظة على الاستقلال أصعب من نيله: هذه الجملة مكتوبة على الحيوط واللافتات، حيث وليت النظر، في ساحة الاحتفال عند كورنيش المدينة وفي المدرسة، قيل أن السيد إدريس السنوسي ملك البلاد رددها ذات مرة، بعيد نيل الاستقلال.
ليبيا الحديثة نهضت، كما تقريبا في السودان والسعودية، ضمن حركة دينية إصلاحية، هي الحركة "السنوسية" التي مُؤسسها الجزائري "محمد بن علي السنوسي" في منتصف القرن التاسع عشر.

هذه الحركة المعروفة عند المؤرخين فحسب، تمكنت من صوغِ رؤيةٍ دينيةٍ تقويمية، تقوم على الاتباع من جهة، وعلى النظرة الخصوصية الإصلاحية لعلاقة الدين والحياة لمؤسسها، الذي نجح بالتمترس في الصحراء الليبية، في الابتعاد عن أي نفوذ للقوى النافذة حينها. وبالتالي نجح حفيده الأمير إدريس السنوسي، من رَأسَ الحركة - بعد وفاة والده المهدي- في تأسيس المملكة الليبية المتحدة، بعد خوض معركة جهادية تحريرية ضد الاستعمار الفاشي الإيطالي بين عامي 1911 و1944م، أي نهاية الحرب الثانية، فاستقلت ليبيا في 24 ديسمبر 1951م، بقرار من الأمم المتحدة صدر سنة 1949م، وبذا تكون أول دولة تنال استقلالها بقرار أممي.

وجاء في مذكرة رسمية للجامعة العربية، بحثها مجلس الجامعة في مارس 1951م، تعقيبا على قرار الأمم المتحدة: أن الأمم المتحدة بتمسكها بوحدة ليبيا، كانت معلنة لا منشئة لهذا الحق، وليست قراراتها في هذا الشأن، إلا اعترافا بحق ذلك البلد في أن يتمتع بنظام الوحدة الطبيعي.

والجدير بالذكر أن أول أمين للجامعة السيد عبد الرحمن عزام، من صاغ ذاك التعقيب، كان مشاركا في جهاد الليبيين ضد الاستعمار الإيطالي، وفي إعلان أول جمهورية عربية: الجمهورية الطرابلسية 16 نوفمبر 1918م. وحين استقلت ليبيا، كان المغربُ العربي يُعرف بالشمال الأفريقي الفرنسي، وجل دول المنطقة والقارة لم تستقل، ولعل هذا ما ساهم في أن المسألة الليبية، كانت محض مسألة دولية، مما عنى أن التنافس الذي دار حول ليبيا تنافسٌ دولي، بين الدول الكبرى المنتصرة في الحرب الكبرى، ومن هذا كان لبريطانيا العظمى والولايات المتحدة، الإصرار على منح ليبيا استقلالها بقرار أممي.

وفي دولة الاستقلال الفقيرة تلك تعلمت، كنا ندعى الجيل الصاعد في المملكة الليبية، التي دستورها التعليم لمحاربة الجهل والمرض والفقر، ما ورثت عن إمبراطورية بني عثمان، ووريثها الاستعمار الإيطالي، الذي جاء لنشر التمدن بالحديد والنار، فنشر الظلام والغبن والمشانق، كما فعل حين شنق شيخ الشهداء عمر المختار 16 سبتمبر 1931م.