Atwasat

ذاكرة الوجع: الإبادة الجماعية في ليبيا (2-2)

إبراهيم حميدان الخميس 18 مايو 2023, 03:55 مساء
إبراهيم حميدان

علي عبداللطيف حميده مؤلف كتاب «الإبادة الجماعية في ليبيا.. الشر، تاريخ استعماري مخفي»، أستاذ ورئيس ومؤسس لقسم العلوم السياسية بكلية الآداب والعلوم بجامعة «نيو إنجلاند» بولاية مين بالولايات المتحدة، متخصص فى النظرية السياسية والسياسة المقارنة وعلم الاجتماع التاريخى، وتركز اهتماماته البحثية والدراسية على القوة والفاعل البشري (الوكالة) والمقاومة ضد الاستعمار في شمال أفريقيا، وخاصة ليبيا الحديثة. أما المترجم فهو محمد زاهي بشير المغيربي أستاذ شرف علم السياسة بجامعة بنغازي، متخصص في السياسة المقارنة ودراسات الثقافة السياسية والمجتمع المدني والسياسة العامة. وقد حظي هذا الكتاب الذي صدر عام 2020 بالانجليزية، وصدر باللغة العربية مطلع هذا العام 2023، بترحيب واسع في الأوساط الأكاديمية الأميركية والأوروبية والعربية، وكان ضمن قائمة أهم كتب التاريخ عالميًا التي صدرت عام 2020، كما تحصّل على جائزة الجمعية الأميركية العلمية للدراسات المغاربية لعام 2022، وأشاد به عدد من أعلام الفكر والثقافة في أميركا مثل المفكر المعروف نعوم تشومسكى الذي قال عنه «لا تسلط هذه الدراسة الدامغة، المؤسسة على عمل بحثي لافت ومتين، الضوء على سياسات الإبادة الجماعية للدولة الفاشية الإيطالية التي طال طمسها فحسب، بل تدفع أيضًا إلى إعادة تفكير جدية في كيفية تأطير تاريخ الاستعمار وفي أصول وجذور الجرائم النازية البشعة. عمل قوي وكاشف». (ص5).

وهناك أيضًا العديد من الأكاديميين والباحثين الذين أشادوا بالكتاب الذي يُعد بحق فتحًا في مجاله، وإضافة مهمة للكتابة التاريخية حول الاستعمار في ليبيا وفي أفريقيا، ويقدم البحث منهجًا نقديًا متعدد التخصصات، فقد جاء مُلهَمًا بتبصّرات من حقول متعددة مثل علم الاجتماع التاريخي والأنثربولوجيا والإبادة الجماعية ودراسات ما بعد الاستعمار، وقد مكّنته خلفيّته العلمية هذه إضافة إلى كونه مؤرخًا اجتماعيًا محليًا/ خارجيًا من أصل ليبي، من تفكيك تعقيدات الإبادة الجماعية الليبية وسياسات الذاكرة في ليبيا وإيطاليا.

النقد المزدوج
يتقصّى المؤلف تاريخ الإبادة الجماعية في كلٍ من ليبيا وإيطاليا على افتراض أنهما مترابطان متصلان. وتنطلق دراسته لهذا التاريخ من وجهة نظر الضحايا، والاستماع إلى أصوات الناجين من المعتقلات من الليبيين المسلمين، عبر رواياتهم التي وثّقها الباحث من خلال مقابلاته معهم، وأيضًا عبر توثيق قصائد الشعر الشعبي التي تروي مأساة الترحيل الجماعي والاعتقال في المعتقلات الفاشية خلال الفترة من 1929-1934. هذه الروايات الشفوية والقصائد الشعبية هي التي أبقت على «الذاكرة الشعبية لما حدث» حيةً وتناقلتها عبر الأجيال، وأبرزت حيوية وإنسانية الثقافة الشعبية، للناس العاديين في مقاومة العنصرية وتزييف التاريخ (ص18). ويُحاجج الباحث ضد افتراضات دراسات العلوم الاجتماعية الغربية الحديثة وحدودها- مثل الدراسات الأوروبية، والشرق أوسطية، ودراسات جنوب الصحراء الكبرى وجنوب أفريقيا- بالإضافة إلى دراسات الإبادة الجماعية الحديثة التي تركز على الهولوكوست/ المحرقة كحالة أوروبية فريدة، بينما هي ليست كذلك.

يتبنّى المؤلف في كتابه نقدًا مزدوجًا إذ قام أولًا بتفكيك المركزية الأوروبية السائدة في الأبحاث الدراسية العلمية حول الإبادة الجماعية، كاشفًا ضآلة كمية الأبحاث التاريخية المتعلقة بالفظائع التي ارتكبتها الفاشية الإيطالية تجاه السكان المحليين في ليبيا وبقية مستعمراتها الأفريقية، فرغم وفرة الدراسات حول الفاشية الإيطالية إلا أنها ظلت صامتة فيما يخص الإبادة الجماعية خارج أوروبا، وشاعت خرافة زائفة بشأن الفاشية الإيطالية باعتبارها فاشية معتدلة، أو أن «الشعب الإيطالي طيب» وهي الصورة النمطية التي روّجت لها وسائل الإعلام والسينما والأدب. ثانيًا قام المؤلف بفحص التأريخ الليبي الحديث وسياسات تاريخ ما بعد الاستعمار، التي تتضمن أصول الدولة الليبية ولكنها تتناقض مع وجهة النظر حول المجتمع بوصفه ثانويًا وتابعًا، وخاصة تلك المتعلقة بالناجين من المعتقلات وعائلاتهم، خلال النصف الثاني من القرن العشرين. وإذ يستعيد المؤلف تاريخ المعتقلات بناءً على التاريخ الشفهي والشعبي للناجين، هذا التاريخ الجديد من الأسفل، المتجذّر في التاريخ المخفي للسكان المحليين، يتحدّى كلا من العنصرية الاستعمارية والفاشية، ومنظور النخبوية القومية/ الوطنية الذي سيطر على كتابة التاريخ منذ الحرب العالمية الثانية. ويدعو الكتاب إلى نقد أكبر للصمت حول الإبادة الجماعية الاستعمارية، والدراسات المتمركزة أوروبيًا للحداثة والفاشية.

ما قبل الهولوكوست
من بين الإضافات المهمة التي يقدمها الكتاب، الصلة التي يكشف عنها بين سلوك الإبادة الذي مارسه الإيطاليون الفاشيون في ليبيا وسلوك المحرقة/ الهولوكوست النازية ضد اليهود في أوروبا، فقد اهتم الأوروبيون بالمحرقة اليهودية لأنها حدثت في أوروبا، في حين التزموا الصمت التام وأحيانًا الإنكار تجاه الإبادة الجماعية في ليبيا.

ويشير المؤلف إلى دراسات ألمانيّة حديثة كشفت عن تعاون تم غضُّ الطرف عنه، يتعلق بزيارات قام بها قادة نازيون وشخصيات ألمانية بارزة إلى طرابلس للتعلّم من كفاءة النموذج الاستعماري الإيطالي ونجاحه في ليبيا، وأصدروا عقب زياراتهم تلك كتبًا ونظّموا ندواتٍ ومؤتمراتٍ حول التجربة الاستعمارية الإيطالية في أفريقيا بشكلٍ عام وفي ليبيا بشكلٍ خاص، وقام القائد العام لقوات الأمن الخاصة هاينريش هيملر بزيارة رسمية لليبيا عام 1939 ليقف بنفسه على النتائج التي تحققها السياسات الفاشية على الأرض الليبية، وكانت هذه السياسات مصدر إلهام للسياسات النازية لاحقًا. (ص288).

الدراسات الغربية تتجاهل أن الإبادة الجماعية الإيطالية في ليبيا قد حدثت قبل الهولوكست/ المحرقة اليهودية، كما أنها تتغاضى عن أن الإبادة الجماعية الإيطالية في ليبيا كانت بمثابة «قصة نجاح» لدى مهندسي الهولوكوست الألمان النازيين الذين عملوا على اتّباعها في حل المسألة اليهودية في ألمانيا وأوروبا الشرقية. ويرى المؤلف أن المحرقة اليهودية ليست استثناءً أو حالة خاصة وفريدة في تاريخ الإبادة داخل أوروبا بل هي متجذرة في الجرائم الاستعمارية في أفريقيا، أي أن المحرقة هي خلاصة الجرائم الاستعمارية للإبادة وبالذات في الكونغو وناميبيا وليبيا. ويقرأ الكتاب الحالة الليبية ضمن إطار إنساني وعالمي مقارن ومتداخل وأشمل حول جرائم وعنصرية الاستعمار الفاشي، ولكن من منطلق عربي إسلامي أفريقي.

هذا الكتاب يمثل صرخة في وجه سياسات الصمت والإنكار التي جرت وما زالت تجري في إيطاليا وفي أوروبا، كما أنه يفضح صمت وإهمال الدولة الليبية منذ العهد الملكي مرورًا بالعهد الجمهوري والجماهيري وعهد فبراير. ويدعو المؤلف إلى النقد المزدوج في مواجهة العنصرية الأوروبية وعلى نحو خاص إيطاليا، وتقاعُس وتخاذل الدولة الليبية في الاهتمام بهذا الموضوع وهذه الجريمة، ويكشف الكتاب عن التاريخ المخفي والمجهول وإخضاعه لتحقيق علمي صارم، وبالمقابل الإصرار على حق الناس العاديين في السرد والحديث عن جريمة المعتقلات والإبادة الجماعية الاستعمارية. هذا التاريخ الحيوي الإنساني للأحياء والناجين وأحفادهم يعطينا ذاكرة خصبة، تحافظ وتعبّر عن رؤاهم وأصواتهم برغم الصمت والإنكار والعنصرية في جل الكتابات والدراسات المعاصرة عن جرائم الإبادة الجماعية في القرن العشرين، ولذلك فإنه ليس تاريخ الشر في الماضي، إنه تاريخ الحاضر وتجلياته كما نراها الآن. (ص26).

لقد ذكرت في بداية المقال أن هناك العديد من الباحثين في أمريكا أشادوا بالكتاب، وأحب أن أختم مقالتي بما قاله خالد مطاوع الشاعر الليبي الأميركي والأستاذ في جامعة ميشيغان بالولايات المتحدة: «هذا الكتاب نموذج متميز من المهارة البحثية والتفاني والالتزام. إنه يسرد القصة التي يعرفها الكثير من الليبيين، وإن لم يستطيعوا إخبار العالم عنها. وعبر الجمع بين البحث الأرشيفي، والعمل الميداني الأثنوغرافي، والتبصرات النظرية الثاقبة، والشهادات الشخصية، استطاع علي عبداللطيف حميده، تأليف كتاب كنت متشوقًا دائمًا لقراءته، ولكن لم أتخيل قط، حتى الآن، أن ذلك ممكن. إنني ممتن لهذا الكتاب»