Atwasat

محمد بالراس علي وجمال غرفة التعليق

سالم العوكلي الثلاثاء 09 مايو 2023, 01:10 مساء
سالم العوكلي

اليوم 19 يناير 2011، في جمعية بيت درنة الثقافي، كنا على موعدٍ مع تكريمٍ للمعلق الرياضي المرموق محمد بالراس علي، ومحاضرةٍ يلقيها تحت عنوان «لكرة القدم ثلاث ثقافات»، ولأن استضافة شخص اهتمّ طوال حياته بالرياضة، وكرة القدم خاصةً، كانت تبدو غريبة في جمعية شاغلها الفكر والثقافة والفنون، فكان من ذكائه الذي طالما لمسناه في وصفه وتحليله للمباريات أن يختار هذا العنوان الذي يدرج لعبة كرة القدم في قلب ثقافة الشعوب ويعزّز هويتها، معبراً عن هذه العلاقة الوطيدة بقوله في بداية محاضرته: «لقد تجوّلت بين ملاعب كرة القدم في العالم، وتأكّد لي أن أهم ملعب هو الملعب الثقافي.

قد يظن البعض أن لا علاقة بين الثقافة وكرة القدم، وأن لا سبيل لالتقائهما. ولكن لا سبيل لتطوير الأداء الرياضي والارتقاء به إلا بتطوير الأداء الثقافي والارتقاء به هو الآخر، فقد يتحول الأداء الرياضي إلى كابوس ما لم يكن هناك عمل ثقافي يحتويه».

وبصفتي رئيساً لهذه الجمعية، آنذاك، كان لابد أن ألقي كلمة ترحيب به، ولم تكن المهمة سهلة مع قامة رياضية شكل ثراء الملعومة وجمال العبارة سرّ تميزه، وحرصتُ على أن لا تكون الكلمة قصيرة ومخلة، ولا طويلة ومملة، وأن أنطلق من واقعة كالعادة في كثير مما أكتب، وكانت كلمة الترحيب التالية: «أذكر بداية الثمانينيات، عندما كنت أتابع إحدى مباريات كرة القدم صحبة بعض الأصدقاء، وطلبت منهم الهدوء، قال أحدهم: هذه مباراة كرة قدم تابِعْها بعينيك.

فقلت له: عندما لا يكون المعلق محمد بالراس علي.
لعل السؤال أو الأسئلة التي تطرح نفسها حين يكون الحديث عن محمد بالراس علي (الظاهرة) تتمحور حول أسئلة من قبيل، لماذا تميّز بالراس علي ونال هذا الاتفاق الجمعي على تميزه في زمن يقل فيه التميز ويندر فيه الاتفاق؟. كيف يصبح معلق رياضي مصاحب للعبةٍ يحتكر عشب الملعب نجومها نجمٌ، وربما أكثر نجومية من اللاعبين أنفسهم؟.

ما الذي جعل مهنة تنمو عادة على هامش مباريات كرة القدم الضاجّة، في المتن، للدرجة التي جعلت الكثير من المباريات على هامش التعليق؟.

محاولة الإجابة على هذه الأسئلة، رغم صعوبتها، تنحو بنا تجاه قيمة مهنية وأخلاقية كثيراً ما نفتقدها، وتتلخص في (الإتقان). فتميُّزُ بالراس علي لم يكن وليد الصدفة، ولا لأنه يتعامل مع رياضة شعبية تستهوي الملايين، لكنه كان وليد شغف صقله بالإصرار والمثابرة والنهم المعرفي لاستيعاب وهضم كل خفايا وتفاصيل المهنة وشروط نجاحها، مع نزوع قوي لأن يضيف لمهنة التعليق ألقاً جديداً، ويحقنها بمزيد من الحياد والمعرفة واللباقة.

فكان يضيف لجمال كرة القدم جمالاً عبر تعليقه، وفرض علينا أن نصغي جيداً لمباريات غايتها التوجه للبصر والأعصاب فقط، فأدرج الأذن كأداة تلقٍ واستمتاع بأسلوبه الرشيق، وبغزارة المعلومات التي يختار أفضل الأوقات لعرضها، وبتحليله الحاذق لمسار مباريات لا تبوح بأسرارها إلا في غرف الملابس، وبحدسه النابع من خبرة عميقة في تأويل مجريات اللعب وتوظيف المعلومة لإنجاز التوقع.

وفوق ذلك، استطاع أن يحافظ، وبقدر كبير على حياد المعلق وموضوعيته والسيطرة على الانفعالات رغم دفق أحاسيسه الذي كنا نلتقطه في نبرة صوته وشعريته المتدفقة حين يعلق بروحه الوطنية على مباراة للمنتخب الليبي، أو بحس مفعم بعشق الجمال حين يعلق على منتخب البرازيل الذي يعشقه.

غير أن هذه العواطف لم تطغَ على جدية تحليله وممارسة نقده الموضوعي للوقائع الكروية أمامه، وكثيراً ما كان يتمنى التوفيق للفريقين قبل المباراة، معتبراً أن التوفيق هو اللعب الجميل الذي يُمتع الجمهور بغض النظر عن النتيجة.

مكونات كثيرة كانت ضرورية لجمال كرة القدم: جمال الملعب، قوة الفريقين، مهارة التصوير والنقل، حيوية الجمهور وكثافته، وجود اللاعبين النجوم، عدالة التحكيم، وغيرها، لكن محمد بالراس علي استطاع أن يضيف جمالية أخرى تتمثل في التعليق المصاحِب، وكنا نبشر أنفسنا بمزيد من المتعة حين ندرك أنه من سيُعلّق على المباراة، فكان يجعل من الإصغاء أحد تقاليد الفرجة الممتعة.

يقول عن اللاعب البرازيلي أنه مهووس باللعبة الجميلة حتى وإن كلفته هدفاً، والمعلق بالراس علي كان شغوفاً بالجملة الرشيقة وسرد المعلومة في وقتها دون أن تكلفه الانتباه في متابعة الوقائع في الملعب كما يحدث هذه الأيام. إننا نلتقي اليوم بمحاضر مثّل في ذاكرتنا، وسيمثّل لأجيال قادمة، قيماً مهنيةً مهمةً، كالإصرار والمثابرة والنظام والدقة والتجهيز والإتقان، والرغبة الدائمة في التعلم، والأهم من كل ذلك التواضع الجليل الذي عادة ما يكون صنواً للمعرفة، والإحساس النبيل بأن الإنسان يتعلم لآخر لحظة في حياته. فمرحباً به في رحاب جمعية بيت درنة الثقافي في محاضرة تربط بين كرة القدم والثقافة، ومثلما نصفُ، كشعراءٍ، الإبداع بأنه لعبة، فهو يعتبر هذه اللعبة إبداعاً وثقافة».

وبتقديم الصحفي الرياضي، علي النويصري، عرض بالراس علي محاضرته الشيقة التي خلبت لب الحاضرين، خصوصاً حين تطرّق لفرقي المدينة: الأفريقي ودارنس، وأهم نجوم الفريقين، عارضاً تعليقه ذات يوم على النجم فهيم رقص، الذي وصفه باللاعب الذي أحرز هدفاً بأذنه، وكان وصفاً لذكاء اللاعب حين لاحق الكرة ومسك بها حارس المرمى قبله، فتظاهر بالرجوع شاحذاً أذنيه لسماع صوت الكرة حين تصطدم بالعشب، لأن عادة ذاك الحارس أن يدحرج الكرة على العشب ويمسكها مرة أخرى، وبمجرد سماعه لصوت ملامستها للعشب رجع بسرعة واقتنص الكرة مودعاً إياها في الشباك.

وهو صاحب الوصف الشهير للاعب القرن الذي قال عنه «وصول الكرة لقدمي مارادونا تعني سقوطه»، ونحن كمصطافين على شواطئ الشعر آنذاك كنا نتوقف كثيراً أمام ومضاته الشعرية التي تلتقط مكامن الجمال في لعبة ينضح منها العرق.

بعد هذا اللقاء لم ألتق به إلا في زيارتي إلى عمّان، في فبراير 2018 بدعوة من قناة 218، وتشرفت بحضور غداء جمعنا مع بعض العاملين بالقناة والضيوف المدعوين للاحتفال بالذكرى السابعة لثورة فبراير، وكان مازال رغم مرضه يحتفظ بذاك التوهج والسعادة العارمة في عينيه كلما انتقل الحديث إلى كرة القدم، وعنّ لي أن أسأله عن أمرٍ طالما حيّرني، حول مصدر معلوماته الغزيرة في ذاك الوقت الذي لم يكن فيه إنترنت ولا مواقع أو تطبيقات تعرض كل المعلومات بضربة زر، فقال كنت أملك ثلاثة أجهزة راديو أزوّدها بأريال خاصة وأتابع عبرها برامج بالإيطالية والإنجليزية لتفاصيل ما يحدث في كواليس الكرة الأوربية، أما نطق أسماء اللاعبين بدقة فكان يتطلب منه عناءً مضاعفاً، وفي حالات مباريات الفرق الأفريقية التي يحضرها كان يدخل إلى غرف الملابس ليكتب في مفكرته أسماء اللاعبين كما تُنطق في لغاتهم أو لهجاتهم.

كان اللقاء على الغداء في اليوم السابق لمباراة القمة بين ريال مدريد وباريس سان جرمان ضمن كأس أبطال أوروبا، وحين انتقل الحديث إلى هذه المباراة طلب منا أن نتوقع النتيجة، وكل منا قال توقعه، وحين وصل إليه الدور لم يقل النتيجة فقط لكنه توقع الكيفية، فقال: سيسجل باريس سان جرمان هدفاً ويفوز ريال مدريد بثلاثة أهداف.

وعرض علي أن يمر بي في الفندق ليصطحبني إلى مقهى في عمان يتابع فيه المباريات الهامة، وهذا ما حدث في اليوم التالي، ومن الواضح أن النُدّل كانوا يعرفونه فجاءوا إلى طاولتنا ليسألوه عن توقعه لنتيجة المباراة، فأخبرهم بما أخبرنا به على الغداء (هدف لباريس سان جيرمان ثم يفوز ريال مدريد بثلاثة). كان باريس سان جرمان في ذروة قوته والمباراة على أرضه، وريال مدريد الخارج من الماركاتو السابق صفر اليدين، وخسارته على أرضه في الدوري الإسباني مباريات مع فرق صاعدة من الدرجة الأدنى، توحي بضعف لن يصمد به أمام الفريق الذي قام بأكبر صفقات شراء لاعبين في تاريخ كرة القدم.

فضحكوا من توقعه الغريب، ويبدو أنهم من مشجعي برشلونة المتمنين خسارة ريال مدريد بنتيجة كبيرة. انتهت المباراة وفاز توقّع بالراس علي بكل تفاصيله، ولأنني مدريدي أخذته بالأحضان، أما البرشلونيون الذين سخروا في البداية من توقعه فقد عادوا بكامل الجدية ليسألوه عن توقعه لنتيجة مباراة برشلونة وتشيلسي الأسبوع القادم؟ فضحك، وقال لهم: هذه مجرد توقعات وأنا لست مشعوذاً، ومن الممكن أن أقول توقعي قبل المباراة بيومين أو يوم وفق ما يستجد.

وفي بقية الحديث تكلم عن معطيات المباراة التي جعلته يتوقع هذا السيناريو، معرفته بتاريخ ريال مدريد حتى وهو ليس في قوته، وبالمدربين، وبخبرة اللاعبين في تعاملهم مع المباريات الكبرى، وغير ذلك من المعطيات التي لا ينتبه لها إلا متابع يُتقن عمله ولا يؤثر فيه الضجيج الإعلامي السائد.

رحم الله الأستاذ محمد بالراس علي، وأتمنى أن تتحول مسيرته في التعليق إلى مدرسة تُلهم الشبان الطامحين للمهنة بعده، وأن يُطلق اسمه على أحد ملاعب الوطن، وسيكون أول ملعب يُسمى باسم معلق رياضي، ليؤكد أن التعليق فن لا يقل عن فنون اللعبة الأخرى.