Atwasat

«بكج»!؟ «قفة العروس»

صالح الحاراتي الخميس 27 أبريل 2023, 12:04 مساء
صالح الحاراتي

قلت يوما لأحد الاصدقاء إن كرهك للبعض.. "وقد تكون محقا فى ذلك" ولكن في تقديرى أيضا، ذلك لا يعنى أنهم سيئون بالمطلق، فأحيانا قد يقولون رأيا صحيحا ومنطقيا "وعقلانيا جدا".

وقد حدث ذلك معى مرات عديدة ، فقد أعجبت ببعض الآراء التى كتبها من لا أتفق معهم فى مجمل رؤيتهم وأفكارهم . كنت حينها أحكم عليهم بأحكام قطعية ومطلقة بناء على انطباعي الأول، وأظن أن نقاط التلاقي ستكون محدودة.

وبما أن الحديث يدور عن انتشار الأحكام المطلقة والتعميم فيما يخص الحكم على الناس، وإصدار الأحكام القطعية الحادة، من البعض، فقد تطرق حديثنا إلى وجهة نظره إلى المجتمع بشكل عام ، المجتمع المدني.. هو يفترض ألا وجود لاحتكار الحقيقة فيه، لأن عدم احتكار الحقيقة يقود المجتمع إلى التسامح لا إلى التعصب، وإلى الانفتاح لا إلى الانغلاق.. فكان السؤال: لماذا تغيب فضيلة احترام و"قبول الآخر"، وما أسباب نزوعنا إلى إصدار الأحكام القطعية المطلقة التى تقودنا إلى التعميم في الحكم على الآخر، هل لكي نرضى شغفنا لتأطيرهم وقولبتهم، ومن ثم الحكم عليهم .

وردت هنا كلمة package إلى السطح، تلك الكلمة التى تعنى "حُزمَة، رَبطَة، رُزمَة، أو صَفقَة شاملة".. هذه الكلمة وإن كان استعمالها الغالب يخص أشياء مادية، لكنها في تقديرى معبرة أيضا وبشكل عام عن كينونة الإنسان وماهيته. فالإنسان "بكج واحدة" بمعنى هو حزمة من المشاعر والأفكار والتصورات به الخير والشر "به شيء من كل شيء.."

وبينما كنت أتحدث بهذا مع أحد الأصدقاء قال وهو بين الجد والمزح - إن أمر الإنسان وبكل احترام يشابه فى موروثنا المادي "قفة العروس" التي نجد فيها الحنة والروائح والمكياج، والسواك والجاوي واللوبان .. ومشطا ومرايا وكحلا.. إلخ.

كل تجربة بشرية تترك شيئا من مكوناتها في عقولنا ويستمر تأثير بعض أركانها وتلقي بظلالها على ما نعتقد وما نقول ونكتب.. وكل مرحلة عمرية لها خصوصيتها ومنظومتها الفكرية التى قد يكون جزء منها ساكنا في العقول ويظهر للعلن تحت تأثير حدث ما.. وفي زمن ما، فالأفكارلا تدرس بعيدة عن سياقاتها الزمنية، ووضعياتها التاريخية، وبيئاتها الاجتماعية، وهي تتطور كما يتطور الإنسان وتمر بأطوار أخرى حيث يكون لها ما يشبه مراحل النمو، فيكون لها طور وهي في نشأتها، وطور آخر بعد هذه النشأة، وهكذا تتلاحق الأطوار وتختلف وتتفاوت بين وجود وغياب، وبين تقدم وتراجع، وبين تكامل وتآكل، فيكون الإنسان تبعا لذلك "بكج" أو حزمة من أو"كوكتيل" من المؤثرات، فتسود بعض الأفكار والقناعات في مرحلة ما وتضمحل دون التلاشي في مرحلة لاحقة.

فالتفكير نشاط عقلي يميز الإنسان عن غيره من المخلوقات، وهو عبارة عن مجموعة معقدة من العمليات العقلية التي نتعرف على العالم من خلالها.. وتفسر لنا بعض العلوم عملية التفكير من خلال نماذج مختلفة، فمثلا يفسر علم النفس عملية التفكير بأنها فعالية نفسية راقية تعود إلى ما يختلج داخل الإنسان من ملكات ودوافع واعية أو لا واعية، بينما يربط علم الاجتماع التفكير بتأثيرات المجتمع وتصوراته، أما علم الفسيولوجيا وعلم الأعصاب فيحيل عملية التفكير إلى الدماغ والخلايا العصبية.

إن أية فكرة نفكر فيها يأخذها العقل ويسير في اتجاهها ويستقر محتواها فى الذاكرة، ولذلك يبقى أي نمط تفكير مر به الإنسان في حياته موجودا بكامل كينونته أو بجزء منه فى مخزن الذاكرة، بحيث يمكن استدعاؤه في زمن وموقف معين من أجل تحليل أي فكرة طارئة يريد الحكم عليها .

ولذا قلت لأصدقائي إن الإنسان "بكج" أي حزمة معقدة من الأفكار والتصورات تتغير بحكم التجارب الحياتية بين زمن وآخر، ومع تطور الإنسان يبقى شيء مما علق في الذاكرة من كل الأفكار والتصورات التي اعتنقها يوما ما.. أي فيه من معظم التوجهات الفكرية مع غلبة توجه على آخر في كل مرحلة عمرية معينة، وعندما تمضي حياته قد يغير من بوصلته، ولكن يبقى به شيء من قناعاته ورؤيته السابقة وهكذا.

والمجتمع بأسره هو حزمة من أناس يحملون أفكارا وتصورات مختلفة ومتباينة، ولذلك أعود إلى التأكيد على أن احكام "التعميم" ليست من العدل، وأن وصف أي "مجتمع" بخصلة ما لا ينطبق على كل أفراده وإنما الحكم ربما يكون على الأغلبية وليس العموم .

ولن تجد فى الحياة إنسانا تتطابق معه فيما يحمل من أفكار وسلوك بشكل كامل، ولذا وجب أن نتقبل الآخر (بكج) بمزاياه وعيوبه، فلا وجود لإنسان كامل الأوصاف أو نسخة مطابقة لغيره . وهذا يستوجب منا التعارف وليس التعارك.