Atwasat

قالت لي اكتبني رواية

أحمد الفيتوري الثلاثاء 11 أبريل 2023, 05:18 مساء
أحمد الفيتوري

وإن كنت شخصية مخيالك، فإني فتاة فرنسية، تسرد سيرتها وتصنفها رواية. ثم حرنت متمنعة عني، وكأني أراودها عن نفسها. وعندما أعمل جهدي، أجد الكتابة تصعب، حتى ينقطع خيط السرد. فتتداخل الخيوط ويتشابك نسيج قماشتها، خيوط الحرير ما تستخلص من دودة، دودة السرد تنسجها متقطعة، فالفتاة الفرنسية فتاة الرواية تبدو خيوطاً من شوك، حتى عندما أغويتها أني أسرد سيرتها من عدم للوجود، زادت تمنعاً.

قالت لي ذات مرة زاهية: ما رأيك أن تسردني سيرتك، فالرواية والسيرة سيان، كلاهما مركبه فرس المخيال الجامح، وهما مشدودان بخيط الوريد.

فقلت لها: كتبت ما كتبت من الرواية بدافع الحاجة للكتابة، كما الحياة ما أعيشها بحكم الضرورة، ولذا تداخلت خيوط ما أنسج من قماشة السرد.

انثالت مخيلتي بسيرتي، عندما أخذت أسرد سيرة الفتاة الفرنسية المتمردة، من تمردت عليّ كفرس حرون جامحة. كنت أغترف من ذاكرتي ما أكتب، ما هي زوادة مخيالي، والخيال عندي حاكته جدتي، بحكاياتها وخراريفها وحتى أساطيرها، وهذا طبعاً ما كان حاصلا مع كل طفل قبل. وإن حرن الخيال، جنحت إلى الاستعانة بالذاكرة، وبينها والخيال وشائج.

فكرت أن أكف عن التعقل والمعقول، كي يتسنى أن ينساب مسرودي، فعملت على اختلاق حقائق وابتداع أساطير، مثلما عادة يفعل الكتَّاب، لكن رغم ذاك، اقتعدت في حيرتي أكثر حيرة؟.. تركت الأمر عني، وانشغلت في أحداث، قلبت حياتي رأساً على عقب، ما نعيش الآن لم نعش قبل، قد يكون عاشه أجدادنا.

لقد أردت إرضاءها هذه النفس المشاكسة، فالشخصية الروائية الفتاة الفرنسية، كانت تروي لي ما كتبت، بعد أن رويت لها سيرتي ككاتب، أرادت أن تعرفني قبل أن أعرفها، أن تبحث عن المستويات المتراكمة، خلف السياق السردي في الكتابة عنها، وكأنها تبتغي أن تكتبني قبل أن أكتبها، أن تتحسسني وتذوقني، كما أردت أن تستسلم لي وأن آخذ بزمام الرواية، أن أفعل بها ما أحب، أن ألجها وأخذها لي.

سردت لها ما تيسر من سيرتي قبل، لكن محرر الرواية بالتواطؤ مع الناشر، لم يستسيغا ما فعلت، فلم تكن تهمهم مثل نقاد الحداثة سيرة الكاتب، التي عندهم تستدعي كتابة الرواية دفنها. ولما لم يتمكنوا من فعلهم الشائن ذاك، جعلوا من سيرتي من لزوم ما لا يلزم، كاتب الرواية مهنته الكذب، فهل يمكن تصديق أحد تلك مهنته، إن كتب سيرته، أضف أن روايته حسب نظرية نقدية هي سيرته، وإن خفي ذلك عن قارئ غير حصيف.

كما سلمت أمري للكتابة، أرضيت غروري ما أخفي، انصعت للفتاة الفرنسية، فتاتي الجميلة، من أردت إغواءها بأن أروي سيرتي لها، مبتدئاً بأبي وقصته العجائبية، ما استعارها قدره من قصة النبي يوسف أو هكذا خيل له، حين لم يصدقه أحد. وبررت لنفسي هذا بأن فتاتي جعلت من جدها سرديتها الرئيسة، أو بئرها الأول، فلِم لا يكون أبي نطفة الحكاية وجدتي لحمتها، فمن جبّ أبي كنت، ومن خيال جدتي وسردها صرت.

أبي من ملة صوفية، ويشتهر أحد أجداده، في الشمال الأفريقي وما يحاذيه جنوباً، كولي صالح وصوفي كبير، من كتبت سيرته منذ قرون، وفيها أساطير الأولين ما فاق خيال خلفهم بكثير. فيما جدتي لها أصول أمازيغية، مَن تراثهم شفاهي، لا تضبطه حدود التدوين، فيتسم بأن كل فرد حافظة وراوية، فيكون لكل راوٍ رواية، ما جعل جدتي رواية تمشي على قدمين، وفي كل مسافة من عمرها، تطول روايتها وتستزيد من الطريق. ومن هذا تعلمت أن أكذب، أن أكتب رواية، الرواية أصدق من أي مؤرخ، ومن كل واقع ووقائع دامغة.

ثم أخذتها غيرة أن أكتب سيرتي، فشرعت تكتب سيرتها وجعلت مني آلتها:
لم أعرف إلا فيما بعد، لما تحول جدي إلى قارئ لي، ثم كاتبا ينسخ ما أمل عليه، فجاءني في صباح يوم بدفتر يومياته، ما سلمه لي ثم غادر الغرفة ولم يعد إلا عند المساء، طالعت تفاصيل ضياع جدي المقارب لما حدث لي، أغواه ربيع الصحارى الكبرى الطبيعي، حيث مرة سكبت السماء دموعها، في سيول مياه أغرقت الصحراء وأطفأت عطشها السرمدي، فانقشعت عن بساط أخضر، تتخلله أزهار منها شقائق النعمان الحمراء والأقحوان الأبيض والأصفر، وكأن الأرض، تدس كنوزها في انتظار الغيث، حتى تكشف عن مفاتنها ما أصاب جدي بنشوة، أذهبت عقله فتبعها في وجد حتى تاه فيها، ولم تنقذه غير قافلة عابرة مصادفة. ومن وحي يومياته كان أول ما كتبت مقدمة، لسيرة نشرتها فيما بعد، تحت عنوان «ضياع في الصحاري الكبرى».