Atwasat

الجرح النرجسي ومعاداة الحداثة

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 02 أبريل 2023, 02:32 مساء
عمر أبو القاسم الككلي

يتطرق جورج طرابيشي*، اعتمادا على فرويد، إلى ما يسميه "الجرح النرجسي الكوني" الذي تعرض له الإنسان، الغربي بالذات، من خلال ثلاث ثورات علمية: ثورة كوبرنيكوس العلمية التي أزاحت الأرض، ومن ثم الإنسان، عن مركز الصدارة والمحورية الكونية بإثباته أن الأرض هي مجرد تابع من أتباع الشمس وأنها هي التي تدور حول الشمس، وليس العكس، وهو جرح كسمولوجي. ثم الجرح البيولوجي االذي أحدثه دارون في نظريته حول التطور التي كشفت أن الإنسان لم يكن منفصلا عن مملكة الحيوان يوما، وإنما هو حلقة من حلقات التطور الأحيائي. ويأتي أخيرا الجرح السيكولوجي الذي قرر فيه فرويد "أن النفس [...] لم تعد مركز ذاتها.

فتحت سطح الوعي يكمن أوقيانوس اللاشعور. وقرارات الإنسان، الذي طالما تباهى بحيازته مَلَكَة الوعي، غالبا ما تكون متعينة بالعمق اللاشعوري أكثر منها بالسطح الشعوري" (ص 80)**.

يضيف طرابيشي إلى هذه الجروح الثلاثة، أو بالأحرى المستويات الثلاثة من هذا الجرح النرجسي، جرحا رابعا يسميه الجرح الأنتروبولوجي. وهذا الجرح خاص بالإنسان غير الغربي الذي كان "كوبرنيكه بالأحرى هو الغرب عينه: فقد اكتشف نفسه متأخرا في مرآة الغرب المتقدم" (ص 80). ذلك أن ما لم يخطر على بال فرويد هو "أن هذا الإنسان الغربي، الذي اكتشف أن الأرض ليست مركز الكون، سرعان ما عوض عن هذا الإذلال النرجسي بأن جعل من ذاته مركز الأرض" (ص 80). وبالتالي يكون الغرب قد جرح العالم غير الغربي في نرجسيته لأنه اكتشف أنه لم يعد هو مركز الأرض.

ويرى طرابيشي أن هذا الجرح الأنتروبولوجي كان في الحالة العربية مضاعفا (ص 80)، فعلى حين أن أمما أخرى وثقافات أخرى توقف الأمر عندها على اكتشافها "أن الغرب قد تقدم فيما ظلت هي تراوح مكانها" (ص 80) اختلف الأمر في الحالة العربية حيث "اقترن السؤال: لماذا تقدم الغرب؟ بآخر لا يقبل عنه انفصالا: لماذا تأخرنا نحن العرب المسلمين؟" (ص 80) وهذا حوَّل السؤال، بشأن الإدراك العياني للمركزية الغربية، من كونه سؤالا دراميا عند الأمم الأخرى إلى كونه سؤالا مأساويا في الحالة العربية (ص 80- 81).

"فعلى حين أن الأمم والثقافات الأخرى ترجمت تخلفها نقص تطور [...] فإن العرب قد ترجموه تأخرا [...] بل انحطاطا. [...] ولهذا أيضا تصوروا تقدمهم نهضة، بل ولادة ثانية وبعثا [...]" (ص 81).

ويستدرك طرابيشي بالقول "فالنهضة التي عرفتها أوروبا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر قامت على محاكاة للعصور اليونانية- الرومانية. أما النهضة العربية، التي تصورت نفسها نشأة مستأنفة، فكانت بالأحرى ضربا من التقمص وإعادة التماهي [...]" (ص 81).

ذلك أن "المنطق الذي حكم عصر النهضة العربية هو أن على العرب أن يكونوا أنفسهم، لا أكثر ولا أقل، لينهضوا ويستعيدوا حضارتهم في عصرها الذهبي" (ص 81).

إلا أن "هذا المنطق قد أدى في نهاية المطاف إلى تحميل ‘‘الأغراب‘‘ أي الشعوبية [...] مسؤولية الانحطاط" (ص 81).

ويربط طرابيشي بين هذا "المنطق القومي العربي، الذي أوشك أن يكون عرقيا، هو عينه الذي يتجدد اليوم في الأصولية الإسلاموية: فكما أن العرب ما انحطوا إلا باختلاطهم مع الأغيار، كذلك فإن الإسلام ما انحط إلا بقدر ما كف عن أن يكون إسلاما.

ومن هنا مطلب العودة إلى الإسلام في نقائه الأول المفترض، مما يعني ضمنا وأساسا تطهير الإسلام من كل ‘‘الجراثيم‘‘ التي لحقته من جراء تماسه مع تلك الحضارة المغايرة والمضادة التي هي الحضارة الغربية" (ص 81). ذلك أن "الإسلام اليوم [...] في جاهلية جديدة، وليس المطلوب أقل من إعادة أسلمته [...]" (ص 81).

وينتقل طرابيشي إلى إمكانية قابلية هذا الجرح الأنتروبولوجي للتوظيف السوسيولوجي فيتساءل "أفلا يعود مد الأصولية الإسلاموية، في سبب من أسبابه، إلى العجز عن تضميد هذا الجرح من جراء فشل مشروع التحديث العربي؟" (ص 81).

لكنه يعتبر أن "أخطر نتائج فرضية الجرح الأنتروبولوجي تتجلى على الصعيد الثقافي. فما دام الآخر، أو بالأحرى تقدمه، هو مصدر هذا الجرح، فإن استمرار النزيف النرجسي، أي عمليا استمرار التخلف العربي، يوجد حاجة دفاعية إلى تضخم الأنا وتحجيم الآخر" (ص 81).

ويرى طرابيشي أن "مصدر هذا الجرح [النرجسي] ليس العصر الوسيط المتأخر الذي استدان على سعة من الثقافة العربية الإسلامية وطور، فيما طوره انطلاقا منها، الرشدية اللاتينية مثلا. وإنما مصدر الجرح هو أوروبا عصر النهضة وأوروبا القرن السابع عشر التي كانت وراء مولد الحداثة الغربية وتقدمها المذهل على امتداد القرون الثلاثة التالية" (ص 82).

ويرى "أن ما فعلته أوروبا عصر النهضة وأوروبا القرن السابع عشر هو بالضبط ‘‘القطع‘‘ مع أوروبا القرون الثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر، أي القطع بالضبط مع القرون التي اقتاتت إلى حد غير قليل من الثقافة العربية الإسلامية، وإلى حد أقل من الثقافة اليهودية. والحال أيضا أن هذه ‘‘القطيعة‘‘ هي التي استعصت –ولازالت- على أن تأخذ طريقها إلى مجال ‘‘المفكر فيه‘‘ بالنسبة إلى الثقافة العربية الحديثة" (ص 82).

ذلك "لأن تعقل نهضة أوروبا والثقافة الغربية بمفهوم "القطيعة" من شأنه أن يطوي صفحة ‘‘المديونية‘‘ للثقافة العربية الإسلامية، وهذا ما يتنافى مع حاجة الجرح الأنتروبولوجي العربي إلى التضميد" (ص 82).

كما أن "مفهوم ‘‘القطيعة‘‘ قابل للارتداد نحو الذات التي تغدو مطالبة في هذه الحال بالشغل على ذاتها، وفي إعادة النظر في ما تعتبره ملكا ثمينا ودائمة لها، وهذا ما لا تستطيع ولا تجرؤ على القيام به الذات الجريحة التي لا يزيدها استمرار نزيفها إلا عجزا عن اتخاذ موقف نقدي من ذاتها، علما بأن الموقف النقدي من الذات هو شرط النهضة والإقلاعة [...] الحضارية كما تثبت ذلك تجربة الحداثة الغربية." (ص 82).

المهم، في هذه المسألة، هو أن اعتراض الحركات الإسلاموية المعاصرة على الغرب ومعاداتها له ليس اعتراضا على التبعية (بما أن الغرب لم يعد مستعمِرا)، ولا عزما على انتهاج طريقة تنموية اقتصادية مستقلة، وإنما هو اعتراض على الحداثة من حيث أنها ابنة الغرب المتقدم حضاريا.

* جورج طرابيشي. من النهضة إلى الردة: تمزقات الثقافة العربية في عصر العولمة. دار الساقي. ط2. بيروت- لبنان 2009.
** أرقام الصفحات الواردة في المتن تحيل جميعها إلى مقاله: الانفتاح والانغلاق في الثقافة العربية الإسلامية، من هذه الطبعة.

التصنيفات | التتبع