Atwasat

اللحظة الليبية

رافد علي الجمعة 31 مارس 2023, 11:15 مساء
رافد علي

مع حقيقة البعد الجيوسياسي في الصراع الليبي - الليبي بعد اندلاع «فبراير 2011»، طفحت على السطح أزمة الهوية الليبية، وقضايا الانتماءات الفرعية فيها، على حساب هوية جامعة لأبناء هذه الرقعة الجغرافية الشاسعة، وما زالت الأصوات الراديكالية بالبلاد اليوم تنادي بالانفصال، في ظل فشل مفصلي بالبلاد لتسخير التنوع الاجتماعي والثقافي لتحقيق رؤية مشتركة نحو مستقبل مستقر لليبيا والليبيين.

حالة الصراع الليبي تشير الحقائق فيه إلى أنه صراع مصالح فئوية خاصة بالنخب المتصارعة في المشهد السائد، مما عزز حالة الاستقطاب الحاد للخطاب السياسي لأصحاب الهويات والانتماءات الفرعية، علي حساب غياب مُلفت في ليبيا لمشروع وطني حقيقي، حر ومستقل، الشيء الذي زاد من ضعف إرادة العامة، وأضحت الناس لا تلقي انتباها للأفكار المطروحة حول الهوية الوطنية وإشكالات الانتماءات الضيقة، دون الإقلال من الروح السلبية المنتشرة بين صفوف الناس، أو المزاج اللا مبالي للراهن، رغم شيوع الحرب وتفاقم أزمات الخبز المر بالبلاد.

يتخذ مفهوم الهوية علميا طابعا سيكولوجيا وفلسفيا بشكل أساسي، وهو يوظف في مجالات علم الفلسفة بشكل واسع، ويعد من أقدم مبادئها إذ يعني «حقيقة الشيء لذاته»، في حين أن الانتماء يعتبر مفهوما سيسيولوجيا، ويوظف غالبا في مجال الأدب والسياسة وعلم الاجتماع، بكونه صاحب دلالة على ظاهرة إنسانية، بعكس الهوية (التي تنصب دلالتها على ظواهر مادية غير إنسانية الهوية وقضاياها- مركز دراسات الوحدة العربية- بيروت- ط1- 2013).

الآن، وقد شرع السيد باتيلي، المبعوث الأممي الخاص لدى ليبيا، بدعم أمريكي واضح لأجل الوصول بالبلاد نحو انتخابات تنهي جمودا سياسيا ما زال يتربص بالأفق المفتوح أمامنا جميعا، لأجل تدشين مرحلة جديدة مع ليبيتنا، لنتكاشف فيها مع أزمتنا، على مستوى الذات والهوية وجميع الانتماءات الضيقة الأخرى، كمعضلات أساسية، أو كرواسب ظاهرة تنغص على فعلية الاستقرار الليبي كاستجابة ناضجة لاستحقاقات المراحل التي تمر بها الفوضى الليبية كواقع اجتماعي معقد ومضطرب.

وجب علينا الآن، كليبيين، أن ندرك ضرورة الانكباب على خلق حوار ليبي حقيقي حول الذات الليبية، بهدف الترسيخ لهوية جامعة، ينخرط فيه علماء الاجتماع وأساتذة الفلسفة والمختصون بالتعليم والتربية، لأجل خلق وعي جمعي بقضايانا الليبية الشائكة رغم أي انفراج سياسي يتحقق، أو بغض النظر عن أي انتخابات ستُجرى، ذلك أن الأزمة الليبية، أثبتت الأيام، أنها أزمة عميقة، تمتد لآن تمس سيرورتنا وكينونتنا، رغم رواج خطابات التناغم الأهلي والانسجام الاجتماعي، فليس من المعقول أن نفرط في التفاؤل دون انتهاز فرصة لخلق «لحظة فلسفية ليبية» نناقش فيها قضايانا كالتطرف الديني والعصبيات والوطن والمواطنة وحقوق الإنسان، تماماً كما تحاول دول خليجية عديدة اليوم خلق لحظتها الفلسفية في السعودية والإمارات وسلطنة عمان والكويت، إدراكا منها بأن النظام العالمي بات اليوم يتشكل بطريقة مختلفة عما عهدناه منذ عقود ماضية، كما يقول الأكاديمي عبدالله السيد ولد أبيه، المنخرط كثيرا في حملة طرح السؤال الفلسفي بدول الخليج هذه الأيام، بغرض معالجة قضايا عصرية باتت مُلحة عليهم بتلك الدول، خصوصا أن انهيار ليبيا بنسيجها الاجتماعي القريب تركيبا من النسيج الخليجي بحكم القبليات والجهويات والشخصية المحافظة وثروتهم النفطية والغازية، قد أثار فيهم يقظة حقيقية حول أسئلة تتعلق بذواتهم وبأوطانهم والحوكمة فيها، ومصير أجيالهم مستقبلا.

ليس من المعقول أن نبالغ في التفاؤل حيال شخصيتنا الليبية الحالية، والتعويل علي عقلانيتها بمجرد زوال الجمود السياسي، والغياب المتوقع لشخصيات جدلية في مشهدنا السياسي المتأزم باضطراد، فكل ما جري حالة كاشفة عن أعطاب جذرية في الليبية الراهنة اليوم وليست مسببات. فمن اللا معقول، أيضا، أن لا نتحلى بالشجاعة، بعد كل ما جرى من صدام ومأسي حتي التو، لأجل فتح حساب المكاشفة مع ذواتنا الليبية الحالية التي برز مدى ارتهانها للانتماء الضيق، كالقبلية والجهوية والعصبيات الأخرى، كالعرق واللون وجاه السلطان وأوهام التعالي بمرجعياتها، والتطرف الديني بشكل عام، وما لها جميعا من توابع تعرقل السلام والتمدن والعيش المشترك بصيغة عصرية في وطن ما زال سجين أهواء جانحة بذوات متخاصمة فيما بينها، ترفض التصالح مع واقعها الجغرافي، وتأبى فهما راهنا للحظتها التاريخية وعصرها الذي تعيش فيه، مفضلة الإذعان لخواطر عتيقة ونرجسية مكشوفة، لم تجلب إلا العار والفشل حتي هذه اللحظة المعاشة، مرتكزون فيها على فرضية أن لحظة الدولة الحديثة ما زالت مشروعا مؤجلا بالمنطقة، كما شاع منذ عقود مضت، لم نحصد فيها إلا الجثث والدموع، والمزيد من العنف الأهلي في الصومال والعراق ولبنان.

«علينا أن نزرع حديقتنا» كما يقول كانديد، بطل رواية فولتير، محتجا على بانجلوس المعلم، عندما عاد الأخير يتحدث عن نظريته بأن الموجود هو أفضل العوالم الممكنة، بعد أن أدركا الدرس من الشيخ المزارع بأن العمل المستمر وإشغال العقل دائما يجنبان البشر شرور ثلاثة: الملل والرذيلة والفاقة.