Atwasat

عن «الباغيت» وأحواله

جمعة بوكليب الأربعاء 29 مارس 2023, 11:05 صباحا
جمعة بوكليب

في فترة السبعينيات من القرن الماضي، كنت أعتقد خطأ أن القاسم المشترك بين الليبيين والفرنسيين هو حب اقتناء سيارات البيجو. تلك السيارة، بكافة أنواعها، استحوذت على الشارعين الليبي والفرنسي. وكانت سيارة البيجو موديل 504 في ليبيا، حلم كل رجل مخابرات، وضابط في الجيش، ومدير مؤسسة، ورجل أعمال، ورايس في الميناء. لكن أيام سيارة البيجو ولت وانقضت، وصارت جزءاً من الماضي. وعلاقة الليبيين بالسيارات نمت في اتجاهات أخرى، وظهرت أنواع جديدة من السيارات في شوارع وطرقات ليبيا.

مكمن الخطأ في اعتقادي أنني تجاهلت قاسماً مشتركاً أكبر وأكثر تأثيراً، وأقصد بذلك العلاقة التي تجمع الليبيين والفرنسيين في حب أكل الخبز عموماً، و«الباغيت»-Baguette خصوصاً.

وأكاد أجزم أن محبي أكل خبز «الباغيت»، في كل العالم، لن يلتفتوا إلى أي خبز «باغيت» آخر، إذا حضر وتوفر «الباغيت» الفرنسي. وهم محقون في ذلك. والفرنسيون فخورون بما يبدعه خبازوهم في أفرانهم. وحق لهم الفخر بذلك الخبز الذي كان، في رأيي الشخصي، لا يعادله في لذته إلا خبز «الباغيت» الليبي.

الفرق بينهما أن خبز «الباغيت» الليبي أصغر حجماً وأقل وزناً، وأنه موروث عن الاستعمار الاستيطاني الإيطالي. لكن شهرة «الباغيت» الليبي تلاشت، خاصة في السنوات الأخيرة. ورغم ذلك ظل سائداً في السوق الليبية، بلا منافس أجنبي يقلق راحته، أو يهدد وجوده، على عكس مما حدث لنظيره الفرنسي.

فقد قرأت، مؤخراً، تقريراً في جريدة التايمز البريطانية، بأن فرنسا تشهد غزواً ثقافياً أميركياً ممثلاً في خبز «الباغيت» الأميركي. «الباغيت» الغازي لم يأتِ مشحوناً على ظهر سفن، بل يعجن ويعدّ في مخابز وأفران فرنسية، وبأيدٍ فرنسية، وغصباً عن أصحاب المخابز! والأخيرون، استناداً إلى التقرير، قالوا إنهم اضطروا إلى توفيره، استجابة لمتطلبات السوق.

«الباغيت» الأميركي مختلف، ويتميز بليونة واضحة، وبالليبي الدارج «ناقص طياب في الفرن». لكنّ الشباب والأطفال الفرنسيين يفضلونه على «الباغيت» الوطني. ويضيف التقرير أن الفرنسيين هذه الأيام، لا هم لهم، بعد التظاهر ضد قانون التقاعد الجديد، إلا النقاش حول هذا الموضوع، الذي أثاره إعلامي فرنسي مشهور، اسمه سباستيان توماس، عبر تويتر، بتصويره رغيفين فرنسي وأميركي، وتحت الصورة سؤال: هل يستوي الرغيفان؟ وأعلن استعداده للدخول في مبارزة بالسيوف، وجهاً لوجه، مع كل من يقول إن «الباغيت» الأميركي أفضل.

في العام الماضي، وضعت اليونسكو خبز الباغيت الفرنسي على قائمة التراث الثقافي العالمي. واستناداً إلى إحصاءات رسمية، يستهلك الفرنسيون 30 مليون باغيت يومياً، و10 مليارات سنوياً.

وفي فرنسا يوجد أكثر من 35 ألف مخبز، يعمل بها ربع مليون عامل. وصناعة الخبز صناعة كبيرة. وتتولى جهات مختصة قانونية وصحية وضع المواصفات للباغيت، من حيث الوزن والشكل والطول والعرض، ونوع الدقيق المستخدم في العجين، بل وحتى القرمشة (Crispness) المعروف بها الباغيت، بمواصفات لا تخرج عنها، وتراقب الأمور بصرامة، كمن يحرس كنزاً وطنياً.

«الباغيت» الأميركي الغازي الجديد لفرنسا، والذي يهدد بهزيمة «الباغيت» الوطني الفرنسي في عقر داره، لا يختلف عن نظيره الفرنسي في الشكل، لكنه بلا طعم ولا قرمشة، ولدى أكله يشعر آكله، وكأنه يمضغ مطاطاً.

والسبب لأنه يسحب من الفرن قبل ثلاث دقائق من الوقت المقرر «للباغيت» الفرنسي وهو 23 دقيقة. أصحاب المخابز يؤكدون أن «الباغيت» الأميركي بلا فوائد غذائية، مثل التي يحظى بها نظيره الفرنسي. لكن صغار السن صاروا يفضلونه بسبب ليونته، مما يجعله سهل التناول، ولكنه صعب الهضم في المعدة.

وعلى مستوى شخصي، يبدو أن حلول شهر الصيام مؤخراً، قد يكون السبب وراء قراءتي للتقرير عن «الباغيت» الفرنسي، والخوض في موضوعه بالكتابة عنه.

وعلى مستوى موضوعي وعام، ربما يكون الدافع أنه ذكرني بسوء الحال الذي وصل إليه «الباغيت» الليبي مؤخراً، وعدم تحرك المسؤولين عن المخابز إلى استعادة السيطرة على انفلات أصحاب المخابز الليبية واستغلالهم المشين للظروف التي تمر بها البلاد، ولا مبالاتهم بالمستهلك الليبي إلى حد استخدام مواد مسرطنة.