Atwasat

رحيل الرفاق (في رثاء إدريس بن الطيب)

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 26 مارس 2023, 12:46 مساء
عمر أبو القاسم الككلي

"كل ابن انثى، وإن طالت سلامته... يوما على آلة حدباء محمول". طرفة بن العبد.
"رأيت المنايا خبط عشواء من تصب... تمته، ومن تخطيء يعمر فيهرم". زهير بن أبي سلمى
"ألا أيها الركب المخبون ويحكم... بحق نعيتم عروة بن حزامِ". عفراء بنت عقال العذرية.

يغادر رفاق المحنة* عالمنا هذا، واحدا فواحدا، مغادرة دون عودة. عبد الله العوامي، إدريس المسماري، محمد الفقيه صالح، عبد السلام شهاب، وأخيرا إدريس الطيب. وأخشى أن يحذو حذوهم الآخرون قبلي، فأظل أرثيهم بحزن حارق إلى أن أبقى "مثل السيف فردا"**، ولا يكون هناك منهم من يرثيني، ولا (رمحا ولا سيفيا ردينيا يكون عليَّ باكيا)***.

إدريس بن الطيب، وما أدراك مَن إدريس بن الطيب! كان شخصا متوقد الذكاء، شاعرا مبدعا، حساسا للألحان والموسيقى، وصاحب مباديء واضحة وصريحة يعتبرها خط الدفاع الأخير الذي أي تراجع عنه يعني هزيمة حقيقية وانتحارا معنويا. لم يكن هيابا، كان صداميا، بعض الأحيان، إذا كان لا مفر من الصدام، دون أن يكون عدوانيا. ينطبق عليه قول عمرو بن معد كرب:
" وخُلقتُ يومَ خُلِقتُ جَلدا"
في كتابي "سجنيات" ثمة نص مستلهم من أحد مواقفه بالسجن مهدى إليه:
"
موضوع النقاش
إلى إدريس بن الطيب.

سها المتناقشون في مرحلة من النقاش، فاحتدوا وعلت أصواتهم.

اسكت!. انت واياه!.

حين التفتوا صوب الصوت المعنف كان وجه أحد الحراس يسد كوة الجدار المستطيلة، وكان ضوء الزنزانة الشاحب يكسو وجهه بمسحة قسوة واكفهرار.
انتظر الجميع في توجس ما سيأتي.

شن كنتو تقولوا؟.
صمت الجميع مرتبكين.
شن كنتوا تقولوا؟.

فجأة نهض، وعلى غير توقع، شخص معروف بالحدة والمخاطرة، في هدوء شديد لا ينسجم مع ما اعتيد منه.
أنى نقولك شن كنا نقولوا.

تقدم إلى مسافة معقولة من الكوة.
كنا، يا سيدي، نتناقشوا في انبجاسات الهيمنة السديمية المقترنة باضطرابات ارتجاعية في المجتمعات ذات البنية المتراكزة حول الانسداد القيمي***.

قال الحارس بهدوء:
باهي. غير تناقشوا بالشوية."

تنقل إدريس بن الطيب بين عدة مدن في ليبيا. فلقد ولد في مدينة المرج سنة 1952، وأصيب بشلل الأطفال في إحدى ساقيه في سنة الأولى من عمره، ودرس في زاوية دينية في الجغبوب وعمره عشر سنوات، ثم في معهد ديني في البيضاء، وبعدها في معهد ديني في طرابلس. عمل في الصحافة، وعاش فترة في السويد وفلندا، وكان قد سافر إلى بريطانيا وأمريكا.

وبعد خروجنا من السجن عمل دبلوماسيا في إيطاليا والهند والفلبين. دون أن يلوثه موقعه هذا في العمل مع نظام شمولي استبدادي.

كان من أوئل من بادروا إلى تأييد ثورة 17 فبراير 2011 وخدمها بخبرته الإعلامية والثقافية والفكرية.

لقد عاش حياته محققا قدرا كبيرا من طموحاته.

* أعني هنا، تحديدا، رفاقي الذين لفقت لنا قضية واحدة.
** إشارة إلى بيت عمرو بن معد كرب: ذهب الذين أحبهم، وبقيت مثل السيف فردا".
*** إشارة إلى بيت مالك بن الريب: " تذكّرتُ مَنْ يبكى عليَّ فلم أجدْ... سوى السيفِ والرمح الرُّدينى باكيا"
**** هذا الكلام، بالطبع ليس بالنص، وإنما هو من وضعي على غرار كلام مشابه تحدث به إدريس.