Atwasat

الولع الليبي بالجمال

سالم العوكلي الثلاثاء 21 مارس 2023, 01:44 مساء
سالم العوكلي

ثمة سِمات شائعة نعثر عليها عند المجتمعات، يمكن تعميمها إلى حد معقول، لأن بعض هذه السمات مُعدٍ وينتقل بالمحاكاة والغيرة، أو بروح التنافس المثمر، فتتحول إلى ظاهرة اجتماعية. سبق أن تحدثتُ في مقالة سابقة عن بعض هذه الخصائص جاءت بعنوان «الشخصية الليبية ودفاعات التكيف»، مُحيلاً الكثير من السلوكيات الغالبة؛ التي سادت في حقب مختلفة، إلى مرونة الشخصية الليبية، وقدرتها على التكيف مع ما تمر به من ضغوط، بكل ما لهذه الخاصية من سلبيات وإيجابيات. وفي سياق حديثي عما اعترى المنظومة القيمية الليبية من تغيرات عبر العقود السابقة وحتى الآن، أحيل هذه التقلبات إلى آلية «التكيف» التي تُعد غريزة طبيعية ودفاعية عن استمرار الحياة، ليس لدى البشر فقط ولكن لدى كل ما هو حي فوق الأرض. ويرِد في المقالة المذكورة في سياق تعدادها لمفاصل مهمة أنتجت سلوكيات تتأقلم معها، مثل اكتشاف الثروة النفطية، ومن ثم الأيديولوجيا الجماهيرية التي حكمت لعدة عقود: «من باب التكيف الضروري مع إجراءات الأيديولوجيا الجديدة، تغيّرت الكثير من الميول والسلوكيات لدى أغلب الليبيين، وأصبح الحديث عن الشخصية الليبية في الثمانينيات مختلفاً إلى حد كبير عنه في الستينيات، ولم يخلُ الشعر الشعبي، ولا حتى الأغنية، أو أحاديث المقاهي والمرابيع من بكائيات ترثي تلك القيم (الحسنة) الآفلة التي تمتّعت بها الشخصية الليبية، ولم يكن الأمر مجرد نوستالجيا أو حنين إلى الماضي، ولكنه انتباه لتحوّلات مفصلية في سلوك أفراد المجتمع فرضتها تغيّرات الحياة وغريزة التكيّف مع الظروف الجديدة».

وهو نوع من تكييف سبل العيش ليناسب ما مر به المجتمع من تقلبات في سبل كسب الرزق. وهذه المرونة تُحيلنا إلى سؤال مُفاده: هل ثمة شخصية ليبية راسخة قابعة داخل هذه الطبقات من الغبار والصدأ يمكن أن تلمع من جديد حين تُزال مصادر هذا الانحراف القيمي (التكتيكي) الذي فرضه التكيف؟. لا أعرف، لكن ما أدركه أن الشخصية الإنسانية مثلها مثل الهوية ليست معطىً ثابتاً، إنها متغيرة ومتحولة وفق آليات صراع البقاء ومتطلبات العيش التي يفرضها إيقاع الحياة الجديدة وقوانين تبادل المصالح الطارئ، مع ملاحظة أن القدرة على التكيف من الممكن أن تكون سلبية، أو إيجابية حين يُدار المجتمع بطريقة تحفز تلك الكوامن الخيّرة في البشر، والدفع بها في مجال التنافسية الذي تحكمه المواهب والقدرات والمؤهلات والرغبة في النجاح المهني، وحين يكون العقاب العادل هو رد الاعتبار الذاتي لمن اختار في زمن الفوضى طاعة الضمير، والنزاهة سمةً لسلوكه.
من السمات الغالبة على المزاج المجتمعي الليبي الشغفُ بالجمال والنظافة، وهي أيضا سمات تنتبه لها، عادة، العين السائحة، القادمة من الخارج، وأذكر أن سيدة عراقية زوجة أستاذ كان يعمل في جامعة درنة، لفت نظرها أناقة ونظافة البيوت الليبية، وكما قالت يظهر هذا الاهتمام حتى في البيوت الفقيرة، وأذكر في طفولتي شغف البدويات بتجميل بيوتهن البسيطة، بيوت الشَّعر، حيث تستغرق المرأة كثيراً من وقتها في جمع الرقع الملونة من بقايا الأقمشة والملابس القديمة، وخياطتها بشكل كولاجي لتزيين سقوف وأروقة البيوت، فضلاً عن تلك الألوان التي مازال مشهدها يتراءى لي، لأكوام خيوط الصوف المكدسة قرب عين الماء بجميع الألوان الخلابة في وقت الصباغة، وهي التي ستتحول إلى أفرشة وأغطية مزخرفة من الهُدم والكليمات، ما يعكس ولعاً بالألوان الجريئة، وميلاً لتجميل المحيط بقدر الإمكان. والآن، حين التجول في مدينة مثل درنة يمكن ملاحظة جمال الديكورات والألوان التي يقترحها الشُبان في المحال والمقاهي، وفي الفنادق الخاصة المقامة حديثاً، وأحياناً يتعدّى هذا الولع بتزيين المحيط الملْكية الخاصة إلى الرصيف أو الحديقة االمجاورة، كفضاءات من المفترض أن تكون ضمن اهتمامات الدولة، حيث أن مؤسسات المرافق العامة وخططها لم تناغم حتى الآن هذا الذوق الشعبي الشائع وتوق الناس إلى تجميل المكان، بل عادة ما تُدمر آلات المرافق التابعة للدولة ما يتطوع به الناس لتجميل محيطهم، فيحدث أحياناً أن يتبّرع شخص بتجميل الرصيف أو الحديقة القريبة من محله، ثم تأتي آلات الدولة لتحفره وتعيث فيه خراباً وتترك التراب مكدساً والحفر مفتوحة وتمضي، وهي مشاهد شائعة طالما رأيتُها بأم عيني. الناس يُجمِّلون ما في استطاعتهم وما يخصّهم، ولكن الشوارع والأرصفة والميادين والحدائق ونظافتها مسؤولية الدولة، غير أننا كثيراً ما نكتشف أن هذه الواحات الجمالية التي يبتكرها الناس غارقةٌ وسط فوضى وقمامة وبِرك مياه آسنة وحفريات لا تتوقف، بفعل العمل الارتجالي والعشوائي للأجهزة الرسمية التي يعمل بها جيش من الفنيين والموظفين والعمال، دون أن نرى أثرها إلا في حملات سريعة بمناسبة زيارة شخصية ما، ثم يعود كل شيء إلى سابق عهده.

وفي حضور المواطنة الصالحة تغيب الدولة الصالحة.

من الوجيه طرح سؤال يتعلّق بكون هؤلاء المسؤولين (هم أيضاً ليبيون) ومن المفترض أن ينطبق عليهم ما اعتبرناه سابقاً سمة الولع بالجمال والنظافة، وفي هذه الحالة، سيتعلق الأمر بمزاج النظام الحاكم، وبما يسمى فن إدارة الزحام، وغياب الكفاءات، والفساد المتفشّي في مثل هذه المهام، حيث إن أغلب المشاريع التي تُرتجل تكون الغاية منها انتزاع أموال من الميزانية بطرق رسمية، دون التفكير في جدوى مثل هذه المشاريع أو تجميلها أو إتقانها. إن المسؤول الذي يزيد الفضاء العام قُبحاً عبر إنجار المشاريع المُرتجلة، سنجده مهتماً بالأناقة في بيته، ما يعكس حالة الفصام في الشخصية بين طبيعة اهتمامها بالفضاء العام واهتمامها بالفضاء الخاص.

كثيراً ما يقارن الليبيون بين جمال ونظافة وأناقة مدنهم في عقد الستينيات، ووضعها في العقود اللاحقة حيث اختفت هذه اللمسات الجمالية تدريجياً، وهو أمر من الممكن إعادته كما أسلفنا إلى ما تعرّض له الجهاز الإداري من تقويض بعدما سُمّي بالثورة الإدارية وما تبعها من إجراءت لتقويض دولة القانون، وأصبحت الصلاحيات فيها والمسؤوليات غير مُحددة، والارتجال عقيدتها، والفساد غالباً حافز مشاريعها حيث الرقابة تتحوّل إلى شأن شعبي (ذاتي)، إضافة إلى سيطرة القطاع العام المتجهم الذي تهمه وظيفة الأشياء على حساب جمالها، واندثار القطاع الخاص وروحه التنافسية التي تشكل مصدراً للإسهام في تجميل المكان، فضلاً على طبيعة النظام العسكري الذي من المفترض (عملياً) أن تكون عقيدته الخالصة ضد فكرة الجمال، لأن تربية الجندي المنضبط في كل الجيوش التقليدية، تعتمد على تخفيض أحاسيسه بالجمال الذي جعل طياراً نازياً يتراجع عن قصف قرية بولندية حينما رأى جمالها من أعلى، ما عرّضه لعقوبة الإعدام. وهي تربية كان لابد منها في الجيوش التقليدية، لكنها ستصبح مشكلة حين تدار بها الدولة برمتها.

عمّت الفوضى وبدأت آليات التكيّف تشتغل مع هذا الواقع الذي تتراجع فيه المرافق الخدمية بشدة، وأصبح كل شخص يدافع عن جمال حيّزه الصغير، ويحاول التكيف ما وسعه ذلك مع ما ينتشر من قبح في المدينة أو القرية نتيجة إهمال الدولة، غير أن الولع الشعبي بالجمال والنظافة حاضر في تلك التفاصيل الصغيرة، ويشكّل فرصة مُتاحة لأي مخططات عامة تحاول أن تتناغم معه وترقى إلى مستواه. كما أن عدوى الجمال تنتقل بسرعة، وكثيراً ما أضرب مثل هذه الأمثلة لمن يتحدثون عن تخلّف (الشعب) وهم يصفون مشاهد الشارع، غير أن ما نسميهم الشعب، أو على الأقل أغلبهم، مازالوا يدافعون عن النظافة والجمال في واحاتهم الصغيرة المسيطرين عليها، البيوت والمحال والمقاهي وغيرها، وهي مشاهد ظاهرة ولا تخفى عن عين، لكن المحيط خارجها هو من مسؤولية الدولة التي يبدو أن عملها لم يرقَ إلى هذا المستوى، وأمام فوضاها يحاول الناس أن يتكيّفوا مع محيطهم بطُرق مختلفة، وسيكونون سريعي التكيّف مع ما تنجزه الدولة من خدمات تهتم بالجمال لو فعلت ذلك يوماً ما.