أحد أمتع الكتب التي قرأتها أخيراً كتاب (اللاأمكنة: مدخل إلى أنثروبولوجيا الحداثة المفرطة) تأليف مارك أوجيه. ترجمة د. ميساء السيوفي. هيئة البحرين للثقافة والآثار.
يضيف التصدير: "إن المؤلف ــ وهو أحد أشهر الأنثروبولوجيين المهتمين بالحياة اليومية المعاصرة ــ يفتح في هذا الكتاب، آفاقاً جديدة لأنثربولوجيا الحداثة المفرطة التي يتوقع أن توجه الباحثين إلى نمط جديد من الفردانية ومن عزلة الإنسان المعاصر". وقراءتي لهذا الكتاب الهام، جعلتني أعود لقراءة فصول من كتاب آخر اطلعت عليه قبل سنوات "المكان واللامكان" الصادر بالعربية عام 2008 عن الهيئة الوطنية للبحث العلمي. ليبيا. تأليف إدوارد رِلف، ترجمه وقدّم له د. منصور بابور. والذي يستخدم فيه المؤلف رِلف المنهج الظاهراتي لدراسة البيئة ومعرفة الأساليب التي تفصح بها الأماكن عن نفسها من خلال خبرتنا المباشرة بها، أو من خلال وعينا بالعالم الذي نختبره، منطلقاً من عدة أسئلة تقود هذا البحث الشاق الذي يسبر علاقة المكان بالفضاء. أو اللاندسكيب. أسئلة من قبيل: كيف يمكن تمييز طبيعة الخبرة بالأماكن وفرزها؟ وما طرائق اكتسابها ووصفها؟ ما دلالات الأماكن ومعانيها؟ وماذا تعني هذه الدلالات والمعاني للمنتمين إلى الأماكن؟ وماذا تعني لغير المنتمين؟ هل تواجه الأماكن المميزة التي يزخر بها العالم، وتعكس التنوع في الخبرة البشرية، طمساً، بل تدميراً وإبادة يصعب تفاديهما؟. ويجيء كتاب أوجيه ليضيء زوايا أخرى غير منظورة من هذه المسألة، التي مازالت تُلهم الشعراء والروائيين والموسيقيين والرسّامين، وما زالت تثير الارتباك في هذه الموجات العارمة من النزوح من المكان إلى اللامكان التي نتابع أخبارها يومياً.
الكتاب الأول ألّفه عالِم جغرافي، مستخدماً خلطة من المنهج الظاهراتي والفلسفة الوجودية، بينما الثاني عالم أنثروبولجي مهتم بالحياة اليومية المعاصرة، لذلك، كتاب «اللاأمكنة» يذهب أعمقَ، من خلال البحث في تخلي المكان عن معناه (لامكانيته) رغم وجوده وعدم تعرضه للطمس أو الإبادة، معيداً تخلي المكان عن هويته إلى فعل ما يسميه (الحداثة المفرطة) التي، حسب ما يرى، فرضتْ على أنماط الوعي الفردي أن يختبر تجارب جديدة ومختلفة من العزلة «العزلة في قلب الزحام»، وهذه اللاأمكنة ــ حسب تصوره ــ نقيض السكن والإقامة، تعبرها الحشود، ولكن من يرتادها يحس أنه وحيد وسط جموع من المعتزلين، وبالتالي لا يمكنه أن يثبت هويته فيها إلا بإبراز الأوراق التي يحملها معه «جواز السفر، أو البطاقة المصرفية ...إلخ» حيث إن علاقته بها عابرة، تنتهي بمجرد مغادرتها «أين أنت حين تكون في الطريق السريعة أو في محطة قطار أو في مطار أو في طائرة، أو في فندق أو في مساحات التجارة الكبيرة أو في مخيم لاجئين؟ أنت في فضاء السرعة والعبور المؤقت. أنت لستَ في مكانٍ وإنما في اللامكان».
المكان، بمعناه الأنثروبولوجي، لا يكون مكاناً إلا بما يزخر به من شعائر، وبما ينشأ فيه من علاقات وعواطف وحكايات، بمعنى أنه الحيز الذي نبطئ فيه كي نختبر وجودنا معه، وحيث لا تنسج العلاقات وتتحقق الألفة، فلا ملامح تاريخية للمكان، فتسارع التاريخ يقابله انقباض في الأرض، بما يحقق مفهوم «الوجود الاجتماعي الراهن»، وربما هذا ما يفسر ظاهرة الانكفاء على الذات في الغرب أو كما يصفه أوجيه (التشرنق).
في مقدمة الكتاب، غير التقليدية، يروي مارك أوجيه حكاية رائقة، تتقصّى تفاصيل رحلة شخص يدعى بيير دوبون، قصة قصيرة مكتوبة بلغة أدبية رفيعة، لكنها تمهد لفكرة الكتاب أو نقلته الجوهرية لتعريف المكان من خلال فهم اللامكان. يستقل دوبون سيارته، ويمر على الصراف الآلي لسحب بعض المال، وتخاطبه الآلة «شكرا لزيارتك»، يدفع رسم الطريق السريع النازل باتجاه باريس عن طريق بطاقته المصرفية، حتى وصوله إلى مطار رواسي ودفعه لرسوم موقف السيارات عبر بطاقة خاصة بالموقف، وفي صالة المطار يقدم بطاقته إلى المضيفة ويسألها: "إن كانت تستطيع أن تجد له مقعداً في المكان المخصص للمدخنين على طرف الممر. يشتري من السوق الحرة علبة سيجار وزجاجة كونياك ويحرص على الحفاظ على قيمة الدفع مع بطاقته المصرفية. ويتتبع المؤلف تفاصيل أخرى لرحلة هذا (الإنسان الوحيد) رغم ما يحيط بها من زحام، حتى يصل إلى مقعد الطائرة «تصفح مجلة شركة الطيران منتظراً الإقلاع وتوزيع الصحف، وتخيل بطرفة عين وهو يتابع بإصبعه، مسار الرحلة المحتمل: هيراكليون، لارنكا، بيروت، الظهران، دبي، بومباي، بانكوك، أكثر من تسعة آلاف كيلومتر، وخطر له بعض الأسماء التي تنقلها الأخبار من حين لآخر».
هذه الحكاية لو كُتبت قبل قرن لاعتُبرت إحدى شطحات الخيال العلمي، ولو كتبت قبلها بقرن آخر لاعتبرت فانتازيا، أو أسطورة بطلها من الآلهة، لكن هذه التفاصيل التي يذكرها في رحلة طيران عبر هذه المسافة، تجعل شخصيته تمر بأماكن مزدحمة غير أن الحداثة المفرطة تجعلها لاأمكنة، وبالتالي فالمسافر في اللاأمكنة تزدحم عليه الصور والإعلانات التي تعرضها، بنهم، المؤسسات التجارية، لأن حركة هذه الجموع هدف لها، وعليها أن تملأ دروبهم وتعترضها بفنون الترويج القوية التي تصادفه في كل زاوية، ولذلك يعود المؤلف في فصل (من الأمكنة إلى اللاأمكنة) لوصف شخصيته المسافرة «هذا الرجل الأربعيني الأنيق الذي يبدو متمتعاً بسعادة لا توصف تحت أنظار مضيفة شقراء، إنه هو بالذات ذلك الربان الواثق الذي يطلق عنان سيارته التوربو ديزل على درب أفريقي مغمور، إنه بالذات ذلك الشخص ذو القناع الرجولي الذي تتأمله إحدى النساء بشغف لأنه يستخدم عطراً برائحة برية».
أثناء السفر، كانت الطرق الطويلة تمر بوسط المدن، وبالتالي أنت مسافر في المكان، حيث ترى شرفات البيوت، والعابرين على الأرصفة، وواجهات المحال، وتضطر للتوقف والتأمل في المفترقات أو عند إشارات المرور الضوئية، غير أن السرعة التي يفرضها إيقاع الحداثة المفرطة اخترعت ما نسميه (الطريق الدائري) أو (الطريق السريع) الذي يجعلك تمر بالمدينة دون أن تمر بها في الواقع، وسرعة المرور تجعل كل التفاصيل تهرب منك.
«كان المسافر الذي يقود سيارته قبل الثامنة صباحاً أو بعد السابعة مساءً، يجتاز صحراء من الواجهات المغلقة.. درفات نوافذ مغلقة، أضواء ترشح عبر الستائر، أو أضواء مطفأة، لأن غرف النوم والجلوس تكون عادة في خلفية المنازل». وفوق ذلك يجد المسافر نفسه مغموراً بالنصوص التي يستطيع أن يشيح عنها بعينيه أينما التفت، أو ما يسميه أو جيه: «غزو النصوص للمكان»، وحتى الآلات الصماء تدخل معك في حوار وتغمرك بالنصوص، «اسحب بطاقتك.. اقرأ التعليمات بتمعن.. شكرًا لزيارتكم.. رحلة سعيدة.. نشكر ثقتكم». وكل هذه العبارات المهذبة خالية من أي روح تصنع ما يسميه (الإنسان المتوسط) الذي يُعرِّفه بأنه مستخدم المنظومة الطرقية والتجارية أو المصرفية، حيث يخلق اللامكان الهوية المشتركة للمسافرين وللزبائن و«لسائقي السيارات أيام العطل».
المكان الأنثربولوجي، لا يستقر على الأرض فقط كعادة المكان كما نعرفه، فوسائل المواصلات والاتصال قد تخفيه في تطبيق أو تنقله عشرات الأميال في الفضاء، فوق السحاب، وأولئك الجالسون على مقاعد متجاورة في طائرة تمخر الفضاء، لا يرون شيئاً من النوافذ المحاطة بالضباب أو السحاب، معرضون لأن يتعثروا في هذا الفضاء بشروط المكان الأنثروبولوجي، لأن المكان الذي كان يرسم حدوده أفقياً، أصبح الآن يمتد رأسياً، في عالم «نولد فيه داخل عيادة ونغادره في مستشفى!».
في الخاتمة التي يكتبها، مثل المقدمة، بشكل غير تقليدي، من مجموعة فقرات كأنها فيض من شعر نضح عن شجن البحث العلمي في مفهوم المكان، يقول المؤلف في الفقرة الأولى من الخاتمة: «عندما تُحلِّق طائرة في المجال الجوي للمملكة العربية السعودية، تعلن المضيفة أنه خلال هذه الفترة يُمنع استهلاك الكحول على متن الطائرة، أي أنه يُعبَّر عن دخول المجال الجوي بهذه الطريقة. الأرض= المجتمع= الأمة= الثقافة= الدين ... وهكذا تُكتب معادلة المكان الأنثروبولوجي بشكل مَجازي في الفضاء: إيجاد اللامكان في الفضاء، ثم بعد ذلك التملّص من الإكراه الشامل للمكان، يعني أننا نجد ما يشبه الحرية".
الحداثة المفرطة تصنع اللاأمكنة، والتخلّف المفرط يصنع الأمكنة ويتشبث بها، وعادة ما تكون أمكنة قاسية، لكننا نظل عالقين فيها، نغدق عليها الغزل ويؤلمنا الحنين حين تنأى عنا، غير أنها، وللمفارقة، هي أمكنة يرجع تقوقعها إلى الخوف من عواصف الحداثة المفرطة التي تجتاحها بقوة، وربما هذه المقاومة هي ما تجعلنا نقيم حولها الجدران، أو نعيث فيها خراباً، أو نتركها دون نظافة، أو نبني المزيد من البيوت والمحلات بجانب الطرق الدائرية كي تصبح شوارع، ونقيم المطبات في الطرق السريعة كي نبطئ، إنها نوع من الشعائر التي نضفيها على المكان حتى لا يهرب منا، بما يشبه طقوس القبائل البدائية التي تضفي على كل شبر من أرضها قداسة ليتحول المكان برمته إلى أرض معبد.
هذه السطور الأخيرة مني، ولا تمت بصلة لهذا الكتاب الرائع. لكني أذكر أني كتبت قبل سنوات، ضمن قصيدة، اسمها (مكان)، هذا المقطع: «تيجان أعمدة عاريةٌ في الأعلى/ أحجارٌ مكعبةٌ تستلقي في الأسفل/ طرقاتٌ حجريةٌ لا تفضي إلى أحد/ بقايا حمام ملكي تنسج العناكب ستائره/ دَرَجُ مسرحٍ صامت/ وأرضية معبد تكسوها الطحالب بخضرة شاحبة....... الأمكنة أيضا تموت حين تغادرها الشعائر».
تعليقات