Atwasat

ولكن لا أين لي

أحمد الفيتوري الثلاثاء 14 مارس 2023, 10:13 صباحا
أحمد الفيتوري

أخذ التعب الرفيق مَن غادرني إلى غرفته، فيما ألحّ السُهد أن يكون الرفيق، من أيقظ روح الصحافة وفضول المرأة، تسللتُ تحت غبش الفجر من الغرفة، حين شاهدتُ مفاتيح السيارة وقد نساها رفيقي على الكرسي.

لما خرجت عن المدينة أغواني عُري الصحراء، دُستُ على دواسة البنزين، الغبار خلف السيارة بدا كما أجنحة، فيما الصبح ينسلّ من الليل، عدا النداهة المصحوبة بمزامير الريح. كلما ولجت الصحراء، رعشة تجتاح ما بين فخذي، تداعب نهدي، تلعب بدماغي كما الخمر، طالت نشوتي فأخذتني بعيداً بعيداً عما أظن، لم أفطن إلا حين غادرني السكر، فلقد انغرست عجلات السيارة في جبال رمال، ما رأيتها أمواج بحر تعلو وتتالى. فما تذكرت حينها إلا علاء الدين واقفاً عند الجبل يصرخ: افتح يا سمسم، وقد عصاني سمسمي، الذي طلع عليّ شمساً/ برتقالة، في شروقها غرقت ثم لفحني موج صقيع عاتٍ، بدل أن أستيقظ زاد سُكْري، اعتقدتُ أن معارفي خير من أي حادي عيس، فولجت عائمة في بحر الرمال العظيم، حين بزغتْ أفعى رأيتها حوت يونس، خاب ظني: شاهدت قافلة ثم أمواجاً تتلاطم فمراكب سابحة، ثم ثعلب جفل مني بدا لي أسد الصحراء، ما انقرض منذ اجتاح أجدادنا الشمال الأفريقي. لكن رعباً شلّ قواي، عندما تذكرت كلام رفيقي ليلة البارحة: «أن الصحراء ليست جدبا ينقطع عنه البشر، بل إنها كالبحار طريقٌ صعب يجذب الأقوياء، وأكثرهم من المجانين، شذاذ الأفاق وهم من المتمردين». إذا الصحراء مأهولة بكل مقتدرٍ وعندئذٍ كنت غير المقتدر. أبي اجتاحه غضب لم أعرفه عنه، حين أعلمته أني مسافرة إلى دول الربيع العربي، لم أُفصّل له لكن غضبه جعله يغمغم، بأني مسافرة إلى دول الجدب، وأن الربيع ذاك يحبره ويلطخ به الورق الصحفيون عندنا. ثم عرفت منه للمرة الأولي، أنه كباحث وأستاذ في الأنثربولوجيا، قد تعاون من خلال الجامعة مع إدارة المخابرات، التي تعرف أن الإرهاب هو ربيع تلك البلدان. ثم ذكرني بالجزائر وعشريتها السوداء، وأن دول الساحل والصحراء تعج أطرافها بالإرهاب الإسلامي، وأن الدول الكبرى مثل بلادنا استراتجيتها الفوضى النافعة، لم أجادله ولا قاطعته، لأن قراري قاطع بالسفر ولا جدوى من مناقشته. هل غدوتُ سبيّةَ ما هدّدني به أبي؟ ساعتها كانت الشمس في كبد السماء، لما تبينت أني تائهة في ربيع الصحاري الكُبرى!، أمامي بحر الرمال وخلفي ومن كل جنب، لقد ضيّعت سفني حيث غربي الجزائر وجنوبي تشاد وأنا في ليبيا، هنا كان جدي هنا والآن فرنسا، ولكن لا أين لي.

قطع تداعياتي أصوات سيارات الدفع الرباعي ما لم أر، فكثبان الرمال سجني الذي يحميني حتى الساعة عن الأنظار، رصاص يلعلع في سماء رعبي، كل الاحتمالات السيئة سبتني، حتى شعرتُ بماء ينساب بين فخذي، تحسستهما بيدي فلم أمسّ غير عرق الخواف، خجلت من رفيقي من أكثر ما تغزل في جمالي القوي. رعشة قوية انسابت من قلبي لكل جسدي فاستعدت شجاعتي، نهضت فشاهدت عقرباً سوداء وكنت أعرف أنها القاتلة لا محالة، وعن بعد مني شُجيرة بدت كنخلة اكتسحها الرمل، لكنها تشبه غزالة تفتكّ نفسها من قبضة صياد، ثم تراءى لي سربٌ من النساء يقطعن مشاوير الشمس اللافحة، قلت لنفسي كليوباترا سباها الرومان، فكوني كليوباترا وليسبِك من يكون.

أسررت الخوف لكن وقعت في قبضة العطش، خرج جدي على أبي كسَهم لم يطلقه أحد، آزرني بإلحاح أن يتركني أبي وشأني، وأن في عروقي يجري دمه، موبخاً أبي الذي يظن أنه يدير العالم من مكتبه، مؤكدًا أن حفيدته مثلما نابليون، لا يرّدها إلا جنرال العجاج، حامي حمى الصحراء.

(العجاج ما أحاط بكل شيء)، غلب حتى الشمس ما اختفت عن أنظاري، ثم ملأ فمي وغطى عيني برماله، ثم طوح بي في سديم النسيان، حتى نسيت العطش، ثم أطراف جسدي الذي غاب في دوامة من الرمال، أخذت يدا جدي تنتشلانني وإن أفلتُ جسدي منه، يشد رفيقي روحي إليه.. يضمها بشبق حتى تصيبني نشوة.

جدي من لم يفارق المستشفي في باريس ليلة، وقد غادر بيته في "ليل"، سيرقد في سرير بجانب سريري حتى أغادر المستشفي، سيكتب ما أملي عليه، وكل يوم يلبي رغبتي في متابعة الأخبار، لذا يأتي بجرائد عدة، ثم يقرأ لي دون كلل ولا ملل.