Atwasat

خدوري .. علم يكشف عن صاحبه

سالم الكبتي الأربعاء 08 مارس 2023, 11:39 صباحا
سالم الكبتي

مجيد خدوري المولود في الموصل عام 1909والمتوفى بأمريكا في 2007. أستاذ بارز في التاريخ الحديث والمعاصر ومن أشهر المشتغلين به في المنطقة.

تخرج في الجامعة الأمريكية في بيروت وصار لاحقا يتنقل بين الجامعات العربية والدولية حتى استقر في محطته العلمية الأخيرة بجامعة جونز هوبكنز في واشنطن. له صلة متينة بليبيا. حل ثاني عميد لكلية الآداب والتربية في الجامعة الليبية بعد تأسيسها ببضعة أشهر. وصل إلى بنغازي عام 1956 وظل كذلك حتى 1957.

وهذه الفترة الزمنية، رغم قصرها، أتاحت له الاهتمام بليبيا وتاريخها فالتقى الكثير من أعلامها ومسؤوليها ذوي العلاقة بهذا التاريخ بدءا من الملك ورؤساء الحكومات والوزراء وأفراد الجماعات السياسية وغيرهم وتابع تفاصيل تطورها السياسي بمهارة ومنهجية كبيرة وأصدر ضمن هذا الاهتمام العلمي مؤلفه المعروف (ليبيا الحديثة) عام 1963 باللغة الإنجليزية ثم ترجمه إلى العربية في فترة أخرى د. نقولا زيادة وقام د. ناصر الدين الأسد بمراجعته. والاثنان كانا على صلة أيضا بليبيا فقد تولى د. زيادة مسؤولية في إدارة معارف برقة خلال 1949و1950وله بحوث ودراسات عن ليبيا فيما شغل د. الأسد منصب عميد كلية الاداب بعد د. خدوري بسنتين في الفترة من 1959 إلى 1961.

وفي كل الأحوال ظل د. خدوري في جانب أخر لا يفوقه جانب ثان.. ظل باحثا مهما في تاريخ العراق بلده الأصلي.

وكشف الكثير من صفحاته التاريخية عبر العراق المستقل ثم العراق الملكي ثم العراق الجمهوري إضافة إلى عنايته بمسائل في الفكر والتاريخ الإسلامي وله فيهما إصدارات مهمة أيضا من مثل الحرب والسلم في شرعة الإسلام وبحوث في الثقافة الإسلامية ومفهوم العدالة في الإسلام.. وغيرها. ظل (العدل) موضوعا حيويا ومؤثرا يشغل على الدوام بال المصلحين ورجال الفكر الإنساني والقانون منذ آماد بعيدة.

فكما يقال أن هذا المفهوم الذي هو العدل لايمكن أن تستقيم حياة من دونه وربما بسببه نشأت طوال التاريخ وعلى امتداد العالم حروب ونزاعات وصراعات واعتداءات على الحقوق سلبت فيها الحريات وتفجرت خلالها دماء وانهارت قيم وكثيرا ما ظلم خلالها بشر دونما أي ذنب.

في إشارة ذات قيمة علمية منه إلى أن العدل هذا المفهوم السامي والراقي تعبير فخم عن جمال الله وحبه. قال في أحد فصلات هذا الكتاب: (المتصوفة الذين طوروا أفكارهم الخاصة بالعدل وحاولوا تحقيقه وفق منهج جديد مختلف تماما عنه لدى جميع المؤمنين اللآخرين.. لم يكونوا أقل اهتماما من غيرهم بالعدل الإلهي. فرفضوا العدل الكلامي شكلا ومضمونا وحاولوا بالاتصال المباشر مع الله تحقيق العدل الإلهي عبر التأمل والرياضة الروحية من دون وسيط لذلك نجد العدل الصوفي تعبيرا عن تجربة روحية تكسب مباشرة من الاتصال بالله لا من العمل الإنساني المعتاد)

ويؤكد في جملة هذا المعنى: (أن العدل الديني يعرف بأفعال إنسانية من خلق الله كما يذهب الأشاعرة أو بأفعال يقررها العقل كما يرى المعتزلة).

ويشير بثقة عالية إلى أن الصوفية أهل تقى واستقامة لكنهم (يئسوا من ظلم المجتمع وفساده وشروره فحاولوا حث أمثالهم في التفكير على سلوك طريق التصوف في الحياة وضرب المثل في كيفية البحث عن العدل في مملكة الله).

فمن أين يأتي العدل. كيف يحدث والبشر لايعجبهم البشر ويحتكمون على الدوام من الصباح إلى الليل.. إلى المظالم وارتكابها في حق بعضهم.

كيف يتم العدل والطرق معوجة. لكن حلم المصلحين والمؤرخين والفلاسفة والأتقياء والبسطاء والعلماء مثل د. خدوري يبقى يتوهج عبر ظلمات الليل والظلم المرين في الآفاق. كيف تستقيم الحياة بدون عدالة؟ سؤال حائر سيظل يؤرق العقول والأفكار.
وثمة مؤلف آخر لايقل شأنا عن بحوث د. خدوري الرصينة هو (عرب معاصرون) أصدره عن دار النهار في بيروت عام 1973 تناول فيه بالتحليل أدوار القادة في السياسة العربية المعاصرة ومدارسهم واتجاهاتهم وفي مقدمتهم على سبيل المثال عزيز المصري وفيصل بن عبد العزيز وجمال عبدالناصر والحبيب بورقيبة. وما ذكره عن هؤلاء كان تراجم لسيرهم الفكرية والسياسية مع العرض والتحليل والدراسة والمقارنة. وفي كل ذلك صار د. خدوري صاحب فلسفة تاريخية يخرج منها بتصور واضح لمنهجه العلمي في التأليف والبحث.
منذ أشهر قليلة صدر للدكتور أحمد الغريري الأستاذ بجامعة الكوفة كتاب وسمه بالعنوان (د. مجيد خدوري وجهوده العلمية) عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر. بيروت. عمان.

الكتاب يقع في مائتين وخمس وستين صفحة . وتوجه بالبحث المباشر في تاريخ د. خدوري وجهوده العلمية وسيرته الكبيرة بين أرقى الجامعات العالمية. تناول عبر فصوله أيضا مصادر د. خدوري ومؤلفاته وطريقته وأسلوبه في البحث والتأريخ والتنظير التاريخي. وأجرى الغريري مقارنات ومقاربات بينه وبين بعض المؤرخين المعاصرين مثل نقولا زيادة وعبدالرزاق الحسني وزكي صالح (عراقيان) وغيرهم في دراساتهم وبحوثهم ورؤيتهم للموضوعات والقضايا التي عرض لها الدكتور خدوري في أعماله وكيف نظروا إلى أحداث التاريخ ووقائعه.

د. خدوري امتاز عن غيره من المؤرخين العرب المعاصرين باستخدام (الترجمة الذاتية) وجعلها أسلوبا يلازم تحليل وعرض مقدماته وتعليقاته وإشاراته في موضوعه التاريخي واعتمد في أغلب مؤلفاته على المقابلات الشخصية التي أجراها مع الكثير من القادة والمسؤولين في المنطقة كما حدث أثناء إعداده لكتابه ليبيا الحديثة الذي شرع في كتابته عام 1959 كما أشرنا في السطور السالفة. الرواية الشفوية والمقابلة يدعها د. خدوري تاريخا وحده يتحرك ويغطيه بتعقيباته وتعليقاته وإشاراته.

وهذا شغل الباحث الجاد الذي ينزح عرقا ودما من قلبه في أداء مهنة الكتابة التاريخية.

هذا الكتاب يهمنا لأن د. خدوري وثيق الصلة بليبيا علميا وشخصيا. ومع ذلك فإن مؤلف الكتاب د. الغريري لم يفسح مجالا كبيرا لهذه الصلة والعلاقة فعلى سبيل المثال وفي سطر عابر ومختصر ورد في الصفحة (49) بعنوان فرعي هو خدوري والجامعة الليبية أشار الغريري إلى أنه كان عميدا في الجامعة الليبية التي تأسست في 1957. وهذا خطأ ملحوظ في الأساس فالجامعة تأسست عام 1955 إضافة إلى أنه وهو أمر يمتلئ إلى حافته بالقصور لم يعتن بوجود د. خدوري العلمي في الجامعة ببنغازي وأثره فيها رغم مدته القصيرة.

ألقى المحاضرات وأدار شؤون الكلية ورأس مجلسها وحضر الكثير من الأنشطة الثقافية في قاعاتها علاوة على لقاءاته المتواصلة بالكثير من الشخصيات التي لم يفته ذكرها وتدوينها في يومياته الليبية.

وهناك خطأ تاريخي كبير وقع فيه د. الغريري في تعريفه الوارد بالصفحة (150)عن عمر المختار حيث ذكر بأنه حوكم من قبل المحكمة الطائرة التي أنشأها الإيطاليون الفاشيون. والتاريخ والواقع يثبتان بأن المختار حوكم أمام محكمة خاصة عقدت جلساتها في سبتمبر 1931 في مجلس نواب برقة السابق بمدينة بنغازي الذي صار مقرا للحزب الفاشستي.

وعلى طول سطور الكتاب يلاحظ بأنه يفتقر إلى الوثائق وحفل بصورتين فقط للدكتور خدوري تتصل بليبيا ولم يشر إلى مصدرهما الليبي الأصلي الذي نشرهما سابقا واكتفى بنفس التعليق دون ذكر المصدر أيضا.

ورغم هذه الهنات نجح د. الغريري في عقد حوار هادئ مع التاريخ ومع د. خدوري ونقده علميا في بعض الالتباسات المتصلة بالتراث الإسلامي وخاصة ما تردد خطأ في رواية (الغرانيق العلى) وتصويب ما ورد في ذلك عند د. خدوري. ولعل د. خدوري نفسه كان ينوي ذلك في دراسة مقبلة لكنها لم تتحقق.

الكتاب إضافة مهمة لتكريم د. خدوري من أحد أبناء بلاده.. واحتفاء به بعد رحيله بأعوام كان فيها خدوري يمثل العالم المحب والعاشق للتاريخ.