Atwasat

سر النبي

أحمد الفيتوري الثلاثاء 28 فبراير 2023, 10:44 صباحا
أحمد الفيتوري

كثيرا ما تدس الرواية الأولى سرها، لكنها تتكشف من خلال السياق السردي عن نسق مفرد، يندغم فيه السياق الدلالي بالسياق السردي بالترادف، فكل منهما يشد الكاتب إليه حتى يبدو وكأن الرواية جسد برأسين، كل رأس منهما مشحون بروح الانفراد. خاصة وأن الرواية الأولى في الحقيقة هي الرواية الأخيرة، ما لا ذاكرة سردية لها، من هذا فإنها رواية تراكمية محمولها حفريات متعددة المستويات، ومنه فهي كما حبل السرة، النبع الأولي المشحون بطاقة الكاتب السردية المشغولة بالدلالة، فتأتي المتتاليات الحكائية كسيل عارم يجلب معه الطمي وما شابه ذلك، فالرواية الأولى بهذا فاعل مفعوله الكاتب، الذي يقع في حبائل الإنشاء بإدراك وبغير إدراك، ولكن بقوة التجربة الأولى التي تقول كل شيء وفي نفس اللحظة، فالسردية الأولى قريبة من النفس، غضة منفلتة، يقينية وغير دَرِبة، تمسك بالجمرة لتدرك لسعتها.

الرواية الأولى إذا كما القص الأول، الذي ينبع من الضرورة رغم جهد الكاتب القصدي، ومن اعتبار أن لا ذاكرة سردية للكاتب فإنها في المحصلة كما حجر الأساس، ما سيدفن في المعمار القادم للكاتب، لكنه الأس الذي يشير إلى معنى الكتابة، ما يشرحها بارت: بـ "أن فعل الكتابة، لا يتم دون أن يصمت الكتّاب. فعل الكتابة كأن يصمت الكاتب، خافت الصوت كالميت، أن يصير للإنسان الذي رفض الإجابة الأخيرة، وأن يكتب يعني أن يهب، منذ اللحظة الأولى، الإجابة الأخيرة للآخر". عند نفسي أني الآخر، القارئ الذي وهبت هذا الحق، والسبب في ذلك يكمل بارت: "أن معنى عمل أدبي (أو نص) لا يمكن أن يتكون وحيدا. فالمؤلف لا ينشئ، أبدا، إلا افتراضات معنى، أو أشكالا، يعود العالم فيملؤها". وما فهمته دائما أن النص يتملص من مؤلفه، من ساعة أن يطالعه الآخر، حتى لو كان الكاتب نفسه، من يعود من العالم الذي يملأ فراغات النص.

الرواية الأولى، النص الذي يتملص من إرادة الكاتب الصارمة، وبهذا يكون سيرة الكتابة ومرجعيتها، هناك كتاب كثر رفضوا فيما بعد نسب عملهم الأول لتجربتهم الإبداعية، وبرروا ذلك بمسببات ودوافع عدة، التي كثيرا ما تبين منزعا ذاتيا، فقد شبّ الكاتب عن الطوق، لكن الكاتب كما أشار بارت: "أن يكتب يعني أن يهب، منذ اللحظة الأولى، الإجابة الأخيرة للآخر". وأظن أن الرواية الأولى المنسية فيما بعد، تبقي حاضرة بقوة في "الذاكرة أس كل عقل"، ومتشعبة في كل الوجدان، ومن ناحية أخرى هي الطفولة، ما يقول القائل إنها البئر الأولى، التي يسميها فرويد العقل الباطن "المشاعر الحقيقية للإنسان هي الموجودة في عقله الباطن أو اللاوعي"، ما يرتكز عليه التحليل النفسي، وما بين التحليل النفسي والعملية الإبداعية وشائج لا حصر لها.

مسألة الرواية الأولى في خاطري، بل واشتغلت عليها مباشرة عند تناولي لروايات عدة ليبية ومصرية، وفي هذا المنتدي، وقد عادت إليّ عند قراءة رواية "سر النبي" الرواية الأولى لـ "محمد فهمي سلامة"، ما عانيت كثيرًا لأجل وضعها في سياقها السردي، حيث وجدت فيها بنية الرواية الأولى صارخة.

"سر النبي" رواية اللعبة المكشوفة، للقارئ العارف لمفرداتها السردية، ما محمولها العلاقة الريفية الاعتيادية بين الدين والشعوذة، بين قبر الولي الصالح والسلطة المهيمنة المستغلة لهيمنة القبور على الأحياء، في الريف شبه الأمي ما تعبث به أساطير الأولين "كان أبي يحكي لي يوميًا، بنفس الحماس وبنفس الشغف، وكأنه كان يؤكّد لي، على أهمية إيداع السر في حجر أحدهم قبل أن ترحل، أبي كان الخادم الأول لسيدنا، لا تستهن بالخدم يا ولد، فهم المستودعات الأمينة لتاريخ طالما زوره الأسياد!."، وهذه الجمل تكثيف للنص، المثقل بتشبيهات ومجازات مسهبة، وأسلوب محموم يبتغي قول كل شيء، لكن ما يميزه الحكائية السردية المقتضبة وغير السائلة. ولكن التدفق السردي لا يجيز الإرباك الدلالي للجمل مثل: "تدور في رأسه الصور المشوبة لمناظر غفيرة، تبهت على بعضها البعض، فيحاول أن يلجأ لثوابت تساعده على استعادة التركيز، فما له إلا ركائز الضاحية".

السياق السردي في "سر النبي" مكثف وحتى غامض، فالروائي مهجوس بحشد هائل من التشبيهات، وبالشخصيات التي تحاك كشخصيات كرتونية شريرة، وهي جميعا شخصية واحدة مكررة تمثل دورا جاهزا في مؤامرة مكشوفة عند الشخصيات المسكوت عنها، أبناء القرية والقرى المحيطة. وهذا النسق الأحادي لا يتطابق والدلالة السردية التي تحيل عليها الرواية، من حيث أن شخصيات مثل شخصيات الرواية مركبة، لكن السياق الذي ينسجه الروائي ينفلت إلى سياق وصفي متطرف، كمن يصف تفاصيل التفاصيل لصورة فوتغرافية" يرى تلك البيوت صالحة لتصوير مشهد فوتوجونيك، لنقاط مضيئة في ظلمة كحلاء"، ومن هذا تحتشد هذه الرواية الأولى بالتوصيف، ما يمسك بزمام الرواية حتى تغرق فيه، ما يبين دوافع الجنوح إلى التشبيهات والمجازات التي أشرنا إليها.

الرواية الأولى كالتجربة الأولى تتسم بالاندفاع، وفي "سر النبي" ينزاح النسق السردي إلى تدفق جمل متتالية منفلتة، فيها حشد مفردات تميز أسلوب الكاتب، لكن تثقل السياق السردي. وفي خصوص هذا التميز الأسلوبي، المشوب بأخطاء لغوية كثيرة، فإنه أسلوب تهكمي وساخر، جعل متعة القراءة ممكنة، برغم تلك الأخطاء التي تربك الجملة. فـ "محمد فهمي سلامة" في "سر النبي" رغم ذلك، سلس الأسلوب وذو سردية مكثفة في روايته الأولى، التي هي حجر الأساس لسياق سردي، يتميز برسم بورتريه دون استرسال سردي ومتتاليات حكائية، لكن كما أشرنا فإن للرواية الأولى سياقا سرديا مغالبا ما يشبه السليقة والعفوية.

وهذه السليقة العفوية جلية في السياق الدلالي، ما محمولها العلاقة الريفية الاعتيادية بين الدين والشعوذة، حيث تجنح الدلالة إلى المصادرة على المطلوب، فمفتتح الرواية، الذي هو توصيف محموم لعراك الحكم فيه الإدانة وهزيمة الأشرار، فيبدو المفتتح "آه.... شهقت إثر الصدمة.. فخرج مع زفيرها شخرة عميقة كصدى لألم بالغ...." كما ختام الرواية "لكن الهمسات اخترقت أذن ذلك البائع، الذي نسي مقلاته وزيته المغلي، ووقف يستمع لما يتناقله الناس عن منظر الجثة، فخبطت كبشته في حافة الطاسة، فآلمت معصمه، فقال من قلبه: آه!".

ليست هكذا قراءة حكم قيمة، بل استقراء لماهية الرواية الأولى، في رواية كـ "سر النبي" لمحمد فهمي سلامة، التي قراءة كهذه لا تصنفها بل تتحاور معها، حول الماهية المعطاة لها باعتبارها الرواية الأولى. المصطلح الذي كثيرا ما نستخدمه، دون دلائل أو مؤشرات من النص المعير كرواية أولى، ما في تقديري أنها النص الصعب المراس، حيث يستوجب من الكاتب كامل طاقته الإبداعية، لرسم سياقه السردي والدلالي في نسق روائي، سيكون بالضرورة الحجر الأساس المنسي فيما بعد.