الثورة انفجار مجتمعي على غير قيادة.. ربما يشابه فوران بركان على غير موعد مسبق.. والانقلاب تقوم به جماعة محدودة بقيادة لأجل تغيير الأوضاع في المجتمع ربما دون رغبة الناس أو بمباركتهم.
في يوم ما كان متاحٌ أن يحدث "انقلاب القصر" فيما عرف بـ "ليبيا الغد" ولكن تم وأده، ولذا قامت فبراير بالتوازي مع ما حدث فى المنطقة.
التاريخ الإنسانى يؤكد لنا أنه "ما من دكتاتورية سقطت بثورة إلا وأعقبتها مرحلة مخاض عسير وحالة مليئة بالفوضى وسوء الحال". وتلك الحالة متعلقة بدوافع وأسباب كثيرة ولا علاقة للحرية والديمقراطية بالواقع المُعاش كما يروج بعض العاشقين للاستبداد..
ولكن الأمر فى نهايته يعود إلى الناس فى سرعة التعافي من الفوضى وعدم التوازن.. أما ما يحدث لدى بعض المجتمعات من العودة لحلم البطل المخلّص فهو تأكيد لحالة العجز والقصورعن التعامل مع الواقع، وعودة لنقطة الصفر واجترار للماضي ودوران فى نفس الحلقة المفرغة من الاستبداد.
وبدل أن يأخذ البعض الحنين إلى الماضي، يُفترض بنا التأكيد على أنه ليس صحيحًا ما يقوله البعض بأن الحفاظ على وضع ما هو الضمانة للاستقرار، وأن التغيير هو المحرك للاضطراب، فالتغير سنة كونية، وما لم يسع إليه الناس بإرادتهم ووعيهم واختيارهم؛ فإنه يقع نتيجة لأحوال ذاتية منبعثة منهم، أو بسبب متغيرات خارجية قريبة أو بعيدة تفعل فعلها الذي لا يملك الناس إزاءه إلا القبول به ثم يتبادلون العتب والملام؛ لماذا لا نقوم بما يجب علينا القيام به؟!
تقديرى ودون الخوض فى تفاصيل كثيرة أظن أن فبراير 2011 كانت لحظة مفصلية في تاريخ بلادنا، لحظة انتفض فيها المجتمع ضد نظام سياسي قائم، ولمدة شهر قبل التدخل الدولى، فقد النظام السيطرة على شرق البلاد وجنوبها وجزء كبير من غربها وترافق ذلك طبعًا بعوامل ومصالح خارجية اشتركت جميعها في إسقاط النظام.
التعريف أو الفهم المعاصر والأكثر حداثةً للثورة هو التغيير الكامل لجميع المؤسسات والسلطات في النظام السابق لتحقيق طموحات التغيير لنظام سياسي نزيه وعادل، يوفر الحقوق الكاملة والحرية والنهضة للمجتمع. أما المفهوم الدارج أو الشعبي للثورة فهو الانتفاض ضد الحكم الظالم بما يحقق العدالة والمساواة وعادة ما يرحّب بها المواطن نتيجة الاحتقان السابق لها.
هل تحقق ذلك؟ لا...
ولكن فبراير ليست صنمًا نكيلُ له السباب والازدراء ونلقى عليه كل أخطاءنا وعيوبنا .. وفبراير ليس شماعة نعلق عليها فشلنا في التعافي من حالة الفوضى التي تعقب أي تغيير سياسي جذرى.. بل يجب أن نوجّه سهام نقدنا ولعناتنا إلى أنفسنا وإلى من تولّى السلطة منذ بداية تغيير فبراير إلى الآن.. والواجب هو التفكير في أسباب المآلات التي وصلنا إليها..
فما أسهل أن نُلقي بالتبعة على شيء افتراضيّ لنهرب من مواجهة أنفسنا والبحث عن أسباب عجزنا، فالحقيقة الماثلة أمام أعيننا والتي نهرب منها هى أن العيب فينا.
يقول الكاتب محمد كساب
مرحلة النضج عند كل الشعوب هى مرحلة تقليل الأخطاء والتعلم منها........أما عند "مجتمعات أخرى"
فهي الاستمرار بالأخطاء مع التفنن في تبريرها واكتساب مهارات أقوى بالدفاع عنها.
الفوضى وعدم الاستقرار الذي جعل البعض يلعنون تغيير فبراير ويصبّون جام غضبهم عليه لا علاقة له بالحالة الراهنة فهناك من يفسرالعنف نفسيًا مثلما هو موجود فى كتاب (سيكولوجية الانسان المقهور) لـ " د. مصطفى حجازى"، الذي يؤكّد أن العدوانية والعنف ينخران بِنية المجتمع رغم مظاهر السكون والمسالمة الظاهرية، يظلّ العنف والفوضى يتحينان لحظة انفجار.
فالإنسان المقهور في حالة تعبئة نفسية دائمة استعدادًا للصراع، بحيث ينهار التفكير المنطقي وتطغى الانفعالات وتشل القدرة على تفهُّم الآخرين، وأحيانًا يُنفّذ التهديد ويحدث الاشتباك باستخدام العضلات أو السلاح، فعالم الإنسان المقهور – كما يقول الكاتب - هو عالم ذئاب ليس هناك ما يضمن له حقه: “إنه متروك لنفسه كي يتدبر نفسه”.
هناك أسباب أخرى عديدة منها سيادة مفاهيم الإقصاء والتصحّر الفكرى وقلة الممارسة السياسية وغياب شبه تام للرأى الآخر... إلخ
ولذا كان من الواجب بدل كيل السهام إلى تغيير فبراير ووصفه بالنكسة والنكبة وما إلى ذلك؛ كان علينا أن نعترف ونتحمل المسؤولية بأننا مسؤولون عن صنع واقعنا.. فنحن سبب ما آل إليه واقعنا ونحن لنا دور فى تأخر التعافي، وأظن أن السر فيما نحن فيه يكمن في خلل ما في عقولنا وفهمنا، مع عوامل أخرى تُكمل المشهد..
الاعتراف بتقصيرنا ومحاولة البحث عن حلول لواقعنا هو الأجدى من خطاب التخوين وكَيْل السباب لفبراير وللمؤامرة الدولية.
تعليقات