Atwasat

الأمن الإنساني وحقوق الإنسان

سالم العوكلي الثلاثاء 21 فبراير 2023, 12:30 مساء
سالم العوكلي

سأتناول في هذه المقالة ثلاثة مواضيع تتعلق بما يحدث في المنطقة وداخل ليبيا، التي بقدر ما تبدو منفصلة إلا أنها، في الواقع، متصلة عضويًا إذا ما ربطناها بمسألة الأمن الإنساني داخل ليبيا، في راهنها ومستقبلها المنظور والبعيد.

في هذا الوقت العصيب الذي تشهد فيه الإنسانية إحدى كوارث القرن متمثلة في عدد ضحايا الزلزال في تركيا وسوريا، يعن لي أن أتحدث عن ليبيا منطلقا من هذه المأساة، وفي أمور شتى. تخبرنا التقارير الجيولوجية الحديثة أن خط الزلازل يمر بكل دول شمال أفريقيا، حيث يؤكد الخبير في مرصد علوم الأرض والبيئة في ستراسبورغ، مصطفى مجهراوي، أن هزات أرضية قوية عديدة وقعت على امتداد ساحل شمال أفريقيا لأن هذه المنطقة تقع على الخط الفاصل بين شريحتين للقشرة الأرضية، شريحة أفريقيا وشريحة أوروبا، وتوجد نقطة التلاقي عند الحدود بين القارتين، بين الحركة الآتية من الجنوب وتلك المتجهة إلى الشمال، "عندما تمتد هذه الظاهرة عبر الزمن يحدث تراكم للضغوط على بعض المناطق وهي ما نسميها التصدعات ومن وقت إلى آخر تتسبب هذه التصدعات في زلازل قوية" ..

هذا الواقع الجيولوجي المتغير، يجعلنا الآن نتساءل حيال هذا التطور العمراني العشوائي السريع في مدن وقرى ليبيا، والكميات الهائلة من العمارات التي بُنيت في العقد الأخير؛ التي، فضلاً عن كون معظمها لا يملك تراخيص بناء ولا مراقبة مركزية، يُشكل اعتداءً على أراضٍ مملوكة للدولة إثر الفوضى المتفشية والفساد، وثمة عمارات وفنادق بنيت في مدينة درنة في أراضٍ زراعية (السواني) المفترض أنها محمية بقانون حماية الأراضي الزراعية، وبحكم اختصاصي كمهندس تربة ومياه تصل أعماق التربة الرسوبية في ما يسمى سواني درنة من 4 إلى 5 أمتار، تشيد فوقها الآن مبان ستكتظ بالسكان، ونحن هنا لا نفقد تربا زراعية خصبة فقط، لكننا سنضع أناسا في خطر في هذه المباني التي تشيد دون هندسة تضمن مقاومتها للزلازل وبمواد بناء مستوردة وغير مراقبة من حديد وإسمنت قد لا يقوى يومًا ما على مقاومة هزات متوسطة، وكل المدن الليبية تشهد هذا النهم من المقاولين وتجار العقارات في بناء العمارات بشكل عشوائي، وباقتصاد هندسي وإنشائي يحقق أعلى الأرباح لتجار العقارات.

من جانب آخر، شهدنا في الأيام الماضية حملة المداهمة التي شاركت فيها قوات من الجيش والشرطة على أحياء في بنغازي انتشرت فيها عصابات الخمور والمخدرات، بما يشبه تلك المعارك التي تحدث في أحياء في مدن في البرازيل وكولومبيا وصقلية وغيرها سيطرت عليها العصابات، وهو عمل يلقى دعما شعبيا، بعد أن استغلت بعض الشرائح المنحرفة الفوضى التي أعقبت سقوط النظام والانشغال بالحرب على الجماعات الدينية المتشددة، وتحولت إلى عصابات مسلحة تتاجر في المخدرات ــ الخطيرة منها خصوصاً مثل حبوب الهلوسة التي ترتبت عنها جرائم كبرى ــ لدرجة أن المحتاجين من المصابين بأمراض نفسية كانوا يُحالون من قبل الصيدليات التي لا تملك علاجهم إلى أكشاك في هذه الأحياء، بعضها يديرها عرب.

أعقب هذه المداهمة إعلان وزارة الداخلية في الحكومة الليبية عن الشروع في بدء حملة موسعة من أجل استرداد السلاح وجمعه في مناطق نفوذ الوزارة التي تحت سيطرة الجيش الليبي، وأفاد وكيل الداخلية أنه بعد سبعة أيام تحديدًا ستتم مداهمة أي أوكار تحوي الأسلحة بالإضافة إلى منازل المواطنين الذين لم يُسلموا ما في حوزتهم من أسلحة. وكلها جهود وطنية مهمة تسعي لعودة الاستقرار والأمن، لكن رفاه الوطن وأمنه مازال يحتاج إلى المزيد، فثمة مخاطر غير مرئية حتى الآن يقف خلفها الفساد المستشري في كل المجالات، تهدد مستقبل الأمن الإنساني بمفهومه الواسع، وتؤكد هذه الحملات على الرغبة في تنظيف البلد من الخارجين عن القانون الذين يشكلون خطرا على السلم الأهلي وأمن المواطنين، سواء من تجار مخدرات أو مالكي أسلحة دون تراخيص، لكنه في الوقت نفسه يحيلنا إلى جرائم أخرى لا تقل خطورة وإن بدت خطورة بعضها غير منظورة في هذه الوقت، لكنها تقع في صلب الأمن الإنساني، أهمها ما أشرت إليه سابقًا فيما يخص اغتصاب أراضي الدولة والبناء عليها عشوائيا ومن ضمنها مركبات سكنية تفتقد إلى ما تتطلبه تراخيص البناء الشرعي والآمن من إجراءات، وبعضها يعتدي على خطوط مد الكهرباء، أو الصرف الصحي، أوعلى الحرم المتاح قانونيا للطرق العامة أو الشواطيء، أو المواقع الأثرية، فضلاً عن الأراضي الزراعية المنتهكة، أو البناء العشوائي الذي اعترض أودية صرف مياه الأمطار وتسبب في فيضانات في بعض المدن والقرى والطرق العامة.

من جانب آخر ثمة جرائم تحدث في هذا الوطن لا تقل عن جرائم هذه العصابات التي سيطرت على أحياء كاملة (خصوصا فيما يتعلق بالمخدرات الخطيرة جدا) والمجرَّمة في كل العالم، وهذه الجرائم تتمثل في عصابات التهريب بكل أنواعها، وعصابات الخطف، والاعتداء على ممتلكات الدولة، وعصابات الفحم وبيع الحطب وجرف الغابات والترب الزراعية وتلويث البحر والمياه الجوفية، والحفر العشوائي المكثف للآبار الجوفية حتى داخل أحياء المدن دون مراقبة، واستيراد الأدوية والمواد الغذائية وبيعها دون مراقبة، وعصابات الابتزاز الجنسي المنتشرة والتي لا يعاقب إلا ضحاياها، وهي جرائم ستطال كوارثها أجيالاً أخرى لم تولد بعد، وهي تستمر مع وجود كل أنواع الأجهزة المُناط بها مكافحة هذه التجاوزات الخطيرة، من حرس بلدي وشرطة زراعية وشرطة كهرباء وشرطة سياحية وبحث جنائي وغيرها، إضافة إلى الجيش المنوط به حماية الحدود والمنشآت الحيوية حين تتعرض لاعتداء. فلماذا يتم التفرج عليها وكأنها تقع في وطن آخر، وكأنه لا تهمنا في هذا الوطن سوى اللحظة الراهنة. والمشكلة أن هذه العصابات حتى لو دُوهمت وأوقفت فإن ما تسببت فيه من خراب وتلويث وإهدار للموارد طويل المدى، سيستمر بعدها ويطال أجيالا لاحقة. كما أن مداهمة هذه الأوكار التي تقع ضمن شبكة أكبر، حيث مهمتها التوزيع الداخلي عبر تمويلها من مهربين كبار عابرين للحدود، ومن المفارق، وربطاً لكل هذه الأمور ببعضها، فإن بعض من يشيدون المباني المشار إليها ويشترون الأراضي هم من تجار المخدرات الذين أُثْروا في هذه السنوات بشكل مفاجئء، حتى أن بعضهم يتفاخر بكونه لم يعتد على المال العام أو يختلس لكن له تجارته الخاصة، وهي تجارة تدمّر روابط المجتمع ونفسيات شبابه وطاقاتهم.

في زيارة لقريب لي في سجن درنة وجدته مكتظًا بصبيان وشبان محبوسين بتهم تتعلق بتعاطي الخمر والمخدرات، وحينما خرجت إلى شوارع المدينة رأيت الأبراج والأسواق الكبيرة والفنادق التي يبنيها تجار المخدرات الكبار (ليس كلها طبعًا، فثمة من يبنون بأموالهم الخاصة ومعروفون من زمن طويل بكونهم مقاولين ورجال أعمال)، لكن من أتحدث عنهم لا يعرفهم أحد ولا نشاط سابق لهم يبرر امتلاكهم لمئات الملايين وشراء الآراضي بأسعار فلكية، ضحاياهم من الفتيان والشبان اليائسين في السجن، بينما هم يتسكعون بين المدن، يقيمون في أفخم الفنادق، ويقيمون السهرات المترفة بعيدًا عن يد القانون، باعتبار أن المال الفاسد يحمي نفسه ومصادره، أما الضحايا البسطاء فهم الذين في متناول القانون.

تكمن استراتيجية إعادة التأهيل المجتمعي، فيما يخص أجهزة الأمن، في أن يدرك كل العاملين في أمن الدولة أن الغاية النهائية هي حماية الأمن الإنساني، وهو أمر ركز عليه مشروع «ليبيا 2025 ـ رؤية استشرافية» الذي كنت ضمن فريقه وانتهى من إنجاز الرؤية العام 2008، حيث يرد في قطاع (الأمن الوطني) هذا المفهوم كما يلي "يمكن القول بأن مفهومَي الأمن والصراع ارتبطا بالديمقراطية والتنمية، وقد راجت مفاهيم لاقت إقبالاً وشعبية خلال العقود الماضية، مثل مفهوم (الأمن الإنساني) الذي استُخدم في تقرير التنمية الإنسانية لعام 1994، الذي انتقل من التركيز على الدولة إلى الفرد أساساً له، حيث انطلق من افتراض رفاهية الإنسان مقابل الدولة. كذلك فإن مفهوم الأمن الإنساني أصبح يشترك مع مفاهيم أخرى ذات علاقة، منها حقوق الإنسان، والتنمية االبشرية». ومن هنا فقد عرّف تقرير التنمية الإنسانية لعام 1994، الأمنَ الإنساني بأنه «أمن الناس من التهديدات المزمنة، والحماية من الآلام المفاجئة التي تعطل أنماط الحياة اليومية». وركز المفهوم على سبعة جوانب أساسية ذات علاقة وهي: الأمن الاقتصادي، والأمن الغذائي، والأمن الصحي، والأمن البيئي، والأمن الشخصي، وأمن المجتمع، والأمن السياسي.".

وهذا المفهوم للأمن الإنساني يؤكد أهمية مكافحة هذه العصابات وجمع الأسلحة، إضافة إلى ما سبق ذكره من أنواع الأمن الإنساني الأخرى (المهملة حتى الآن) والتي تتعلق فعلا بمستقبل أجيال لاحقة، وليس لهذا الجيل فقط.

وأخيراً، ندرك أن كل العالم يحارب المخدرات بجميع أنواعها ويشدد حيالها العقوبات، خصوصًا للمتاجرين فيها، من عقوبة الإعدام إلى الحبس سنوات طويلة، غير أن احتساء الكحول سيظل المشكلة المعقدة في ليبيا، أو الظاهرة التي تحتاج إلى توقف عندها ودراستها وطرح أسئلة عملية بشأنها، بما يحكم علينا أن نتناول هذه الظاهرة التي استمرت طوال التاريخ حاضرة بقوة رغم كل الشرائع التي حكمت بالتحريم والقوانين التي أقرت بالتجريم، باعتبارها ظاهرة لها خلاصات اجتماعية واقتصادية وتشريعية، وسيكون هذا المدخل محور مقالة أخرى.