Atwasat

المواطن الموسمي وأزمة ما بعد الديمقراطية

خالد العيساوي الخميس 16 فبراير 2023, 05:42 مساء
خالد العيساوي

تقوم الديمقراطية في جوهرها على أفكار منها التمثيل النيابي عن الشعب، حيث يصل إلى مؤسسات السلطة أناس انتخبتهم القاعدة الشعبية عن طريق صناديق الاقتراع، وتقوم هذه النخبة السياسية المنتخبة بممارسة السياسة نيابة عن تلك القاعدة الشعبية العريضة دون خروج عن رغباتها وطموحاتها، ولذلك فإن أي انحراف عن توجهات الجماهير ورغباتها ينبغي أن يعقبه إقصاء فوري لهذا السياسي أو ذاك عن دائرة التمثيل الشعبي، إذ هو بمثابة خيانة لرغبة الجماهير.

قديمًا، وفي الحضارة اليونانية، كان الانتخاب حكرًا على «الطبقة النبيلة»، حيث تم استبعاد العبيد والسود والنساء منه، وفي العصور الحديثة توسعت القاعدة الشعبية لتشمل الجميع تقريبًا، ولذلك بات لزامًا على من يود الوصول إلى أحد كراسي السلطة أن ينال ثقة شريحة كبيرة من القاعدة الشعبية المصوتة، ونظريا على الأقل، يصير محتوما عليه أن يعمل على إرضاء هذه القاعدة التي انتخبته، فقواعد اللعبة تقتضي أن من انتخب قادر على إسقاط من أساء التمثيل، وهذه هي الديمقراطية، أو هكذا ينبغي أن تكون، حيث يحتل المواطن البسيط مكانة مهمة فيها، ولذلك حرصت كل الدساتير التي تسمي نفسها ديمقراطية على مقولة «الشعب هو مصدر السلطات».

بهذه الصورة النظرية البرّاقة تم خداع القاعدة الشعبية، من خلال إيهامها بأن الطبقة السياسية تعمل في المؤسسات العامة تبعا لإرادتها، ولذلك يقول ونستون تشرتشل: «الديمقراطية فخ الحمقى»، أو ربما هكذا حاولت الجماهير الضحك على نفسها من خلال تصديق هذا المشهد، وإن كانت في أعماق ذاتها تعلم أن السياسيين غالبا ما يحيدون عن الخطة التي رسمتها لهم العامة، ولكن ما الحيلة وليس بالإمكان أفضل مما كان؟ فالديمقراطية كما يقول أفلاطون «هي أفضل الأنظمة الفاسدة».

لكن المُنعرج الخطير الذي حدث في العقود الأخيرة هو أن هذه الطبقة السياسية المنتخبة لم تعد قادرة على ممارسة السلطة بطريقة تلبي رغبات تلك القاعدة الشعبية وإنْ بشكل حيي، وذلك بسبب بروز لوبيات جديدة تسلطت عليها وصارت توجهها يمنة ويسرة حسب مصالحها الخاصة وبعيدا عن مصلحة القاعدة الشعبية، ولذلك ظهرت هوة عميقة بين السياسة والسلطة، حيث لم تعد المؤسسات المنتخبة من الشعب مصدرًا للتشريع واتخاذ القرار، بل صارت القرارات تتخذ في دهاليز اللوبيات المرتبطة بالنخب السياسية، هذه اللوبيات، التي يحركها رأس مال الشركات الكبرى غالبا أو مراكز قوى أخرى، أصبحت هي التي توجه الطبقة السياسية حيث شاءت وبعيدًا عن إرادة الناخبين، وقد أدركت النخبة السياسية أنها لم تعد مالكة زمام أمرها، ولكي تضمن بقاءها في السلطة تحقيقا لمصالحها الخاصة، صار همَّها إرضاءُ هذه اللوبيات بدل إرضاء الناخبين، ومن هنا برز تحالف جديد بين السياسيين وأصحاب السلطة الحقيقيين من لوبيات وجماعات متمكنة، هذا التحالف أنتج طبقة بورجوازية تسيطر على المال والقرار، وجعل دور الجماهير يتراجع ليصير تماما مثل دور الكومبارس.

هكذا اختفت الديمقراطية المزعومة، أو لنقل: هكذا تكشفت للناس سوءتها، الأمر الذي جعل مفكرا مثل فرانسيس فوكوياما يتراجع عما قاله في كتابه «نهاية التاريخ» الذي وضعه عشية انهيار الاتحاد السوفييتي مدعيًا أن العالم بأسره يسير نحو ما أسماه بالديمقراطية الليبرالية، لينشر مقالاً بعنوان «مستقبل التاريخ»، حيث صار ينادي بالتوزيع العادل للثروة دعمًا للطبقة الوسطى، بعد أن أدت سياسة اقتصاد السوق المفتوح إلى تغول رأس المال وظهور فجوة عميقة بين الطبقة البورجوازية والطبقة الدنيا، ومن هنا فعلى الدولة، أي: «السلطة السياسية» أن تراعي المصلحة العامة للناس وليس مصلحة فئة قليلة منهم امتلكت المال وتحكمت في القرار.

إن هذا المشهد الذي هو وليد الديمقراطية الليبرالية، هو الذي جعل بعض المفكرين يكتبون عن مرحلة «ما بعد الديمقراطية»، وهو الذي أنتج صورة جديدة للواقع السياسي في العالم أطلق عليها بعضهم اسم «ديمقراطية الاستبداد» أو «دكتاتورية رأس المال»، حيث تتحكم لوبيات معينة، خاصة لوبيات المال، في صنع القرار، وتصير الطبقة السياسية أداة طيعة في يدها، ويتراجع دور الناخبين ليصبح ثانويًا شكليًا، هذا الدور يتمثل في عملية إعطاء شرعية صورية لهؤلاء السياسيين عن طريق التصويت لهم في صناديق الانتخابات، وهكذا لم يعد للناخب البسيط أثر مهم في لعبة الديمقراطية سوى الإدلاء بصوته عشية الانتخابات، ولذلك فإن التفات السياسيين وأصحاب السلطة الحقيقيين إليه مرتبط بموسم الانتخابات، ومن هنا أُطلق على هذا المواطن المسكين اسم «المواطن الموسمي»؛ إذ ارتبط وجوده بموسم الانتخابات ليس إلا، إنه يقوم بدور المحلل تماما، حيث يضفي صبغة شرعية صورية على تلك المؤسسات السياسية، ليختفي من الصورة لحظة تقاسم الغنيمة، ولا يعود إليها إلا بعد أربع سنوات، ويزداد الأمر سوءًا حين تتلاعب تلك اللوبيات بمشاعر الناخب البسيط لتوجهه نفسيًا لانتخاب من تريد وإقصاء من لا تريد، وذلك عن طريق ما تمتلكه من أدوات كالإعلام وغيره، مما يمكن توظيفه لصالح جهة ما بدل أن تكون أدوات محايدة ومستقلة.

لقد أدرك الناخب البسيط مؤخرًا هذه اللعبة، فصار يعزف عن الذهاب لعملية الانتخاب في كثير من البلدان، يقينا منه بأن الطبقة السياسية التي ستحظى بصوته لن تلبي له رغباته بقدر ما ستكون رهينة لتلك اللوبيات المسيطرة على صناعة القرار، وبقدر ما ستلتفت إلى مصالحها الخاصة على حساب مصالح الجماهير الناخبة، كما أدرك هذا الناخب البسيط أنه صار ضحية لعبة مكشوفة يُدعى فيها عند المغرم، ويُغيب عنها عند المغنم، وكأنه يتمثل قول جساس:
وإذا تكون كريهة أُدعى لها وإذا يُحاس الحيسُ يُدعى جُندُبُ
هذا لعمركمُ الصغار بعينه لا أمَّ لي إن كان ذاك ولا أبُ

في ظل هذا المشهد القاتم يبرز دور مؤسسات المجتمع المدني، هذه المؤسسات التي ينبغي أن تكون أجسامًا وسطية، بمعنى أنها تمثل ساحة البراح المشترك بين مكونات المجتمع جميعها حاكمة ومحكومة، إذ تقع على عاتقها مهمة توعية الناخب، ومراقبة الساسة، وعقلنة السلطة الحاكمة، أي: تثقيف الجماهير، ومحاسبة السياسي، وكبح جماح أصحاب السلطة؛ وصولًا إلى إنتاج صيغة تستهدف تقديم الخدمة المناسبة إلى شريحة الناخبين، وحماية للمجتمع مما يسمى «القهر المؤسساتي السُلطوي»، في عملية تعرف في علم السياسة باسم «تصويب أخطاء صندوق الاقتراع»، أو يمكن أن نسميها «كبح جماح السياسة والسلطة لصالح الناخبين»، وذلك صونًا للمصلحة العامة، وحفاظًا على نظام الدولة، وحرصًا على إبقاء صورة الديمقراطية المزعومة مضيئة وبراقة...