Atwasat

غياب الثورة الناجزة

رافد علي الخميس 16 فبراير 2023, 02:04 مساء
رافد علي

لازلنا في ليبيا، كبلاد من بلدان الربيعيات بالمنطقة، لم نتجاوز بعد مرحلة الانتفاضة، فالبعد الثوري لازال غائباً، فلا يمكن لثورة أن تنجح بمفاهيم استقالة العقول المعززة بالقبيلة والجهوية والغلبة، برغم عمق الثورة الفوضوي ككينونة تسود عند اندلاعها، فنحن لازلنا أسرى المناطقية والألقاب فيها، ولازلنا لم نكسر قوس فلّيني في ذواتنا، كأجيال راهنة، بحكم الواقع والتاريخ وتدابير السياسة والمال، وبالتالي معطيات الانتماءات الضيّقة هى من تعلو على حساب وطن ومواطنة وسيادة الدولة، كرابط يظل مفقوداً في العقلية الليبية التائهة في متاهات الشيوع العدمي من جهة، وذهنية الفوضوي من جهة ثانية بسبب عدم فعالية مؤسسات الدولة المفقودة حتى اللحظة.

فوضانا الراهنة في ربيعيات العرب أضحت تُدرَك في العالم الآخر بأنها لا تتعدّى أن تكون سيرورة تراكمية طويلة الأمد بعد أن تبخّرت أحلام التغيير الديمقراطي بالمنطقة أمام ضراوة الزعامة الفردية وبروز أزمة بنيوية اجتماعية مُستعصية تحُول دون تحوّل جذري نحو ثورة ناجزة.

سيرورتنا التاريخية في ليبيا، كدولة انتكس فيها الربيع العربي بوضوح مرير، لازالت تُسجّل نفسها كحالة إرباك لكل متتبع لأحوال المنطقة، ففي موجة الربيع الثانية، التي حدثت بالسودان على سبيل المثال، ساد الاعتقاد بضرورة مدنية الدولة، وهي ذات اللحظة التي نزع فيها رجل الشرق الليبي القوي زيه العسكري، ليخوض في السياسة كمُدافع عن حقوق العسكر، ويرفع شعار الوطن في الخطابات العامة بدولة لازالت سرابًا ضمن سيرورة تبقى مشوشة وتائهة، ساهرة رغبتها في انتظار أجيال أخرى تدرك خيبة تجربتنا الحالية، وتتّخذ منها العبر، خلافاً لما نصنعه نحن اليوم أمام تجربة آبائنا وأجدادنا، ما لم نقل، أمام واقع سياسي مخطوف، بأننا أجيال غائبة عن يومها، وبعيدة عن أخذ العبر من تاريخها المرتبك في كل شئ بسبب سيادة الانتماءات شرقاوي وغرباوي وفزاني وأزلام وثوار وإسلامي ودنيوي.

لعله أمام إدراك مشاكلنا الراهنة فى ليبيا قد يحاول أصحاب فكرة المحاصصة السياسية الدفع بها كحل لتقويض مشاكلنا، كمستعصيات القبيلة وإشكاليات الجهوية وعُقدة الانتماءات الضيقة، كالتغول السياسي والفئوية المهيمنة وغيرها من التيارات الفاعلة في المشهد الليبي بفرض الأمر الواقع بقوة السلاح. قد يبدو مصطلح المحاصصة منذ البرهة الأولى تعبيراً يصب في صالح العدالة والمساواة، إلا أن واقع المحاصصة كمنهج تؤكد التجارب فيه على أنه تجربة فاشلة في كلٍ من لبنان والعراق على المدى القريب تاريخياً على الأقل، بل إن المحاصصة عند المتتبعين لأحوالها، كطرح سياسي، يتفقون على أنها حالة تقوّض عناصر الكفاءة والأمانة والقوة، لتركيزها أساساً على عناصر أخرى منبثقة من الجهة والأصل والمنبت، مما يعرض الدولة للانهيار، ويهدّد المجتمعات بالتنازع والاستبداد والإفلاس وحتي الزوال الواقعي، لأن كل فريق منخرط في المحاصصة سيسعى لزيادة قوته وتعزيز مكاسبه وترسيخ نفوذه ضمن منطق الغلبة الذي حتماً ستكون فوضى المليشيات - البعيدة ليبياً حتى الآن عن الخوض فى نقاشها كمعوق حقيقي لقيام الدولة - التي لن تتوانى عن لعب دور في تفاصيل الحياة المجتمعية والسياسية، بما يؤكد أن اللجوء لمنهج المحاصصة في الحكم ما هو إلا التفاف على قيام دولة حديثة وديمقراطية، لها نظامها المدني الذي يتساوى فيه الجميع أمام القانون وفي القانون أيضاً، وهو الشئ الذي يوضح أن الحالة لازالت بعيدة عن طور الثورة الناجزة في أي بقعة من الأرض تكون ساعية إلى خلق مدنيتها الحديثة.

محنتنا الانقلابية على اللانظام تبقى هي سيدة الموقف، إذ لم يتحقق بعد لا الاستقرار المجتمعي ولا التطور السياسي الضروريين لوضع مُنطلقات أساسية لدولة آمنة ساعية لتدخل بنا حُقبة التأسيس المدني الفعلي والعادل، بحيث يقوم وطن للجميع تخلو فيه العصبيات المتأخرة، والمُغَالبات والإقصاءات، ويجتثّ فيه رواج الفساد المفضوح والتحارب الأهلي المؤهل لأن يندلع في أي لحظة. لم نصل بعد، رغم كل هذه السنوات المريرة بفشلها، لمشارف الثورة الناجزة لنشرع في تشييد غدٍ أفضل لأبنائنا ولأحفادنا نتجاوز عبرها كل عُقدنا النفسية وأحقادنا تجاه بعضنا البعض، ضمن وعي راسخ يكفر بـ"العقل المستقيل" كخطوة أولى نحو التاريخ والمستقبل.