Atwasat

قصة حلم مسروق

جمعة بوكليب الأربعاء 15 فبراير 2023, 12:57 مساء
جمعة بوكليب

ما العامل المشترك الذي يجمع بين رواية أدبية، كتبت وطبعت ونشرت في منتصف القرن التاسع عشر تقريباً (1842)، وانتفاضة شعبية حدثت في العام 2011؟

المسافة الزمنية، بين الحدثين (169عاماً) تشير إلى ضعف احتمال وجود ذلك العامل المشترك. لكن التدقيق في الأمر ربما يقول شيئاً آخر.

الرواية الأدبية المعنية عنوانها (المعطف) ومؤلفها روائي وقاص روسي يدعى نيكولاي جوجول (1809-1852). والانتفاضة هي انتفاضة الشعب الليبي في 17 فبراير العام 2011، التي يصادف، في الأيام القليلة المقبلة، الاحتفال بذكراها الثانية عشرة.

المشترك بين الحدثين، حضر في ذهني مباشرة، لدى البدء في قراءتي للرواية، وتأكد لي وجوده لدى الانتهاء منها. واتضح لي جلياً، أن السرقة (المعطف والانتفاضة)، هي العامل المشترك بين الاثنين.

ولمن لم تتح لهم فرصة قراءة الرواية، فإن الشخصية الرئيسة فيها مواطن روسي فقير ووحيد، يعمل موظفاً بسيطاً في دائرة حكومية، أوكلت إليه مهمة نسخ الأوراق، اسمه «أكاكي أكاكييفتش». كان كل حلمه أن يمتلك معطفاً جديداً يقيه برد الشتاء القارس، بعد أن تهرأ معطفه القديم، ولم يعد ممكناً ترقيعه، ولم يعد صالحاً للارتداء والقيام بالمهام المتوقعة من معطف، وهي، أولاً وأخيراً، الوقاية من البرد.

ولتحقيق تلك الغاية، اضطر إلى تغيير الكثير من عاداته اليومية، في سبيل توفير ما اشترطه خياط من ثمن، لقاء إعداد معطف جديد.

المواطن أكاكي اضطر حتى للاستغناء عن وجبة غذائية. وحين جاء اليوم الموعود، وتحقق الحلم، ارتدى المعطف الجديد، وسار في شوارع مدينته «سانت بطرسبرغ» مختالاً فخوراً، في طريقه إلى مقر عمله. وهناك، احتفى به زملاؤه، وأقاموا، في مساء نفس اليوم، على شرف معطفه الجديد حفلاً، في شقة يملكها زميل لهم.

وفي ليل «سانت بطرسبرغ» البارد، بينما هو يسير وحيداً، لدى عودته من الحفل، في حي معتم الإضاءة، هجم عليه لصان شرسان، ونزعا عنه المعطف، وأوجعاه ضرباً، وفرّا هاربين.

اللافت أن جريمة السرقة بالإكراه تلك، وقعت على بعد مرمى حصاة من موقع شرطي حراسة، ادّعى، حين سئل فيما بعد، أنه لم ير أو يسمع شيئاً. وعلى أي حال، فإن تلك عادة رجال الشرطة، سواء أكانوا في روسيا القرن التاسع عشر، أو في ليبيا القرن الحادي والعشرين.

سرقة الحلم/ المعطف، أمر ليس سهلاً مضغه وبلعه وهضمه في لقمة واحدة، وكأن شيئاً لم يكن. والفرق بين سرقة المعطف وسرقة الانتفاضة الفبرارية الليبية، هو أن ذلك المعطف، التاريخي والمشهور، سُرق في ظلام ليل شتائي حالك وبارد. في حين أن انتفاضة فبراير 2011 سُرقت في وضوح النهار، عيني عينك، (والله يرحم الشهداء، ما تمَّ حتى شي) كما صار يردد المواطنون الجزائريون حسرة وندماً بعد حصول بلدهم على الاستقلال العام 1962، وبعد دفع تضحيات بلغت مليونا ونصف شهيد.

وإذا كان معطف واحد سُرق بالإكراه، روى حكايته روائي روسي في العام 1842، كُتب له المجد والشهرة، ودخل التاريخ من أوسع أبوابه، وعاش بيننا حتى يوم الناس هذا، رغم موت صاحبه مصاباً بحسرة، وبنوبة برد شديدة، أودت به، وموت المؤلف كذلك. فإننا لا نعرف على وجه الدقة، ماذا سيقوله التاريخ لاحقاً، عن سرقة حلم شعب بالتحرر، والعيش بكرامة في وطنه، بعد أربعة عقود زمنية من العيش تحت قساوة وعبث أحذية العسكرالثقيلة والكريهة؟

الكاتب الروسي نيكولاي جوجول، اختار نهاية عجيبة لروايته. فهو بوعي منه، أراد الانتقام للمواطن المسكين، بأن أعاده إلى الحياة شبحاً يظهر في الليل، ويهاجم العابرين في الطرقات ويسلبهم معاطفهم. وسادت أخباره المرعبة المدينة، حتى خاف الناس من الظهور ليلاً، أو من السير في شوارع خالية.

وظل كذلك إلى أن تمكن أخيراً من الثأر لنفسه من الجنرال الذي أهانه، عندما ذهب إليه طالباً المساعدة في استرداد معطفه. وفي ليلة حالكة الظلمة، يتمكن من الانفراد به، وخلع معطفه انتقاماً. ومنذ تلك الليلة، اختفى الشبح من شوارع المدينة.

لكن من سينتقم لسرقة انتفاضة 17 فبراير؟
الانتفاضة مؤلفها الشعب الليبي. فهل سيلجأ المؤلف إلى حيلة مماثلة لحيلة الكاتب نيكولاي جوجول، بإبداع نهاية مشوقة الى الرواية التي كتبها بالدم، وبذلك ينتقم من خلالها، من كل الذين خذلوه، وسرقوا تضحياته، واعتلوا ظهره؟
أم أن التاريخ مستقبلاً سيتولى ذلك، بإنصاف الانتفاضة وفضح اللصوص؟

التاريخ، حتى لا نظلمه، لا يمكن الاطمئنان إليه كثيراً، والوثوق به، كونه دائماً مع الواقف، وسُوقاً مفتوحة في كل الحقب، تجري فيها صفقات بيع وشراء. وهو، شئنا أم أبينا، ساحة مفتوحة الأبواب للجدال والخصام بين مؤرخين، من كل الملل والألوان. والمؤرخون، حتى ننصفهم، بشر ضعاف مثلنا. يميلون بأهوائهم حيث تميل الرياح، إلا من رحم ربي.