Atwasat

ضياع في الواحة الضائعة!

أحمد الفيتوري الثلاثاء 14 فبراير 2023, 02:32 مساء
أحمد الفيتوري

كنتُ في مهمةٍ صحفية، نهاية العام الثامن والسبعين من القرن المنصرم، رفقة الراحل الشاعر أحمد الحريري، تاه سائق «الكروزر» العسكري العنيد عن «زلة»، بعد أن تخلى عنا «آل الفُقها»: واحة أحفاد الرسول كما يقولون، تصوروا أننا سندعو لتنفيذ قرارات الدولة، الخاصة بترحيلهم لمنطقة أخرى، تتمكن فيها الدولة من توفير الخدمات الأساسية من ماء وكهرباء، لكن كيف لهم ترْك موطن أجدادهم من آل البيت، الذين هجّوا من مذبحة الدولة الأموية، هم من نجا من الفتنة الكبرى، مقتلة المسلمين الأشهر.

هكذا لم يُرافقنا دليل صحراوي، في جبل «الهروج» البركاني الأسود الذي سطْحُه أشجار متحجرة، وفي وديانه صدف بحري، وهياكل عظمية سمكية، بين غابات حجرية وبحيرة، تيبست عروقها. ضعنا بعد إغواء قطيع غزلان لنا بمطاردتهِ، التي لم يوقف سائقنا العنيد عنها غير مشهد هيكل عظام جمل في حالة قعود، رقبته ممدودة يستنشق الموت من جفاف التراب.

غير بعيد من المشهد الأول، طلع علينا من ثنايا الهروج المشهد التالي: جثة سيارة «لاندروفر» أكلها الجفاف دون داء، عرفنا أنها سيارة زملاء لنا، كانوا قد غرقوا في بحر الرمال، هذا حدث مطلع الستينيات من القرن العشرين. أرهبتنا مشاهد متتالية ففقدنا الرشد، بالمصادفة المحض، بحب الحياة، بتاريخ أجدادنا في حربهم ضد قبيلة القبلي ربة الجفاف، تمكنا من «زلة» التي غادرها كل ذكرٍ قادر، في قافلة البحث عن الضائعين نحن، لم نجد غير عجوز أسود، قبسُ مضحكهِ في الظلمة دليلٌ ساطع على النجاة، هذا حدث منذ ربع قرن أو أكثر.

• ضياع هيرودوت
النخلة لم تسكن الجبل.
أرادت أن تكون؛
اليقظ،
في الصحراء النائمة.

ضاع هيرودوت عن نفسه، في زيارته الأولي لـ «قورينا» أثينا الليبية، بعض سكان ليبيا من ليسوا إغريقا، ذكروا له أنهم يعيشون في بحر الرمال، بعد مدينة هِسْبرِيدس «بنغازي» بحوالي 200 فرسخ أو أقل قليلا، تهجّى له أحدهم اسم جزيرتهم في بحر الرمال، فكانت "أوجلة". .

خط ذلك في الكتاب الرابع من تاريخه عن ليبيا، لكن ما لم يُصدقهُ هيرودوت: يوجد جبل من حجر ملح بعد عشرة أيام من السير، والناس يسكنون عنده، منازلهم مشيّدة من قوالب الملح هذا!، لأن سكان هذه المنطقة من ليبيا المحرومة كليا من الأمطار، بنو منازلهم من الملح. لا تبقى الجدران وهي من الملح قائمة، لو كان ثمة أمطار، أليس كذلك؟ هل سأل هيرودوت نفسه الضائعة هذا السؤال؟ أم كتب ما كتب وهو المذهول.

قبل ذلكم كانت أنهار تلعب هناك، مصادرها جبل «الهروج» أو الجبل البركاني الأسود، وقد يكون جبل «تيبستي» حيث سلسلة «أكاكوس» ما سيكون مصدر أساطير رواها «إبراهيم الكوني» في رواياته. جفت هاتيك الأنهار، التي سلطت الشمس عليها سياطها، إثر غيرة اجتاحت الشمس، بعد أن فضّلت الأرض القمر، القمر الذي يتغنج في سماء أوجلة، رفقة نجوم خليعة، تعرض مفاتنها كل ليلة على السابلة.

عليكم الحذر، ثمة واحة غير موجودة ستظهر لكم، لا تظنوا بوجودها، لقد حدث أن خرجت هذه الواحة المسكونة لمن ظن أنه فالح، سُمع لغطٌ وهمهمات ولم يُرَ أحدٌ، لم يُكتشف أثر قدم في رملها حتى كُلّ من الفحص، لكنها حديقة غناء بالنخل ،المُثقل بالثمر مما ندر، مثل الصعيدي والدقلة.

من شرب من مائها العذب الغزير، فطن لحيلة، اقتطع الجريد من النخل، وكل ما سار مسافة غرس جريدة، ظن أنه حدد الطريق إلى تلك الواحة غير الموجودة، نام قرير النفس، فاق الصبح محاطا بالجريد ما غرست يداه، هكذا تيقن أنها الواحة الممتنعة عن الجميع، إلا من تاه وضل الطريق فسماها: «واح صَبرو». التي قد تكون «أوجلة» غير المرئية؛ هاتيك تدل القوافل إلى أوجلة التي تهواها الجِمال، وتهيم بها كل قوافل الصحاري الكبرى.
مرة فيما سلف من الزمان: قدماء ليبيا، عمَ العجاج مسكنهم، والعجاج يركب ريح الجنوب «القِبلي»، وهي مهاري لامحة، ما مرت بزرع أو ضرع إلا جف من هول مرآها.

يقول هيرودوت: قبائل تدججت بالسلاح والغضب، صرَ الليبيون على محاربة القبلي، اليوم ليس لريح الجنوب عاصم من حرب شعواء، لم تكللْ تلكم الحرب بالنصر، لكن كان على جباه الرجال الذين ذهبوا في حربهم حتى الفناء، كان على جباههم إكليل غار أو كما يقول هيرودوت، من لم يذكر أن المحاربين كانوا قد تمترسوا ولبسوا دروع "أُوجلية".

• ضياع المستشرق!
النخيلة القصيرة القامة،
قالت للريح:
المرأة الممشوقة القوام مثلي؛
تهفها خفة الروح،
تثقلها سلافة القلب.
فاستكيني، عند محاذاة ظلها.

فيما بعد، حيرَ سواحَ الصحراء الليبية، متحفُ الصخور أو المساخيط، كتابٌ مخطوطٌ كتبه فرنسي مجهول الهوية، ويحمل تاريخ سنة 1685م، وظل مخطوطا في المكتبة الوطنية الفرنسية، ذكر: بعد مسير متواصل لأيام ثمانية، الحملة وصلت، رأت المدينة المتحجرة، حيث مسخت جميع المخلوقات إلى حجر. في منطقة أوجلة هذه تصاب برشح الدهشة، أغرب الأشياء وأعجبها مطمورة هنا:أجساد بشر، أجساد حيوانات، أجساد شجر، مسخت حجارة، ولا تزال تحتفظ بروح طبيعتها بهيئاتها وألوانها.

لم تكتفِ فرنسا بشهادة شاهد من أهلها، ففي يناير من سنة 1707م كتب "شارل لامار" القنصل الفرنسي، إلى وزيره حول هذه المدينة الحجرية: حملني على اتخاذ قرار بإيفاد نائب القنصل، الذي عينته لمدينة «درنة» مصحوبًا برسالة من البِك، إلي شيخ «أوجلة» التي تبعد ثلاثة أيام من «درنة»، ليرى ما إذا كان في إمكانه العثور على جسد بشري متحجر، فذاك شيء سيكون جديرًا باهتمامات جلالة الملك. كل الذين بلغوها أكدوا لي مشاهداتهم لعدد من الأجسام البشرية في أوضاع مختلفة، وكذلك قطعان الكباش برُعاتها وكأنها حية، والرمال/السافي، تكشفها وتغطيها بحسب الرياح.

هذا ما جاء في كتاب: «واحات الجنوب البرقي بين الأسطورة والتاريخ»، للمؤرخ الليبي «محمد مصطفي بازامه»، الذي نقل ما ذكر أولئك وحَسبُه ذلك جهد.