Atwasat

8 شباط ..

سالم الكبتي الأربعاء 08 فبراير 2023, 02:34 مساء
سالم الكبتي

من المفارقات اللافتة للاهتمام في التاريخ العربي المعاصر أن أحداثه تتكرر وبعضها يظل ثابتا ويشير إلى ما يقع بعده. دور وتسلسل يتتابع ويقف عليه الإنسان في المنطقة بمنتهى السهولة. وتبقى هذه المنطقة وإنسانها يعانيان من هذا التكرار إلى درجة تفوق الملل.

يوم الجمعة الثامن من شباط (فبراير) 1963 الذي وافق الرابع عشر من شهر رمضان.

نهض الزعيم عبد الكريم قاسم في الصباح. حلق ذقنه. ارتدى بذلته العسكرية المكوية بعناية. وسدارة الرأس. وحذاءه اللامع ومضى نحو مكتبه في ثكنة وزارة الدفاع في بغداد حيث إقامته المعتادة.

كان صائما وكان ثمة مجموعة من العسكر الذين سيشرعون في التمرد عليه يتبادلون الحكايا في إحدى المقاهي المجاورة ويتناولون قهوة الصباح تمويها على ما ينوون القيام به رغم لحظات الصيام. كان ثمة إعداد منذ أشهر لإسقاطه. اتخذوا مجموعة من القرارات الممهدة لذلك ومن بينها تشكيل الحرس القومي الذي سيتولى المساندة.

واحترازا من أية مفاجأة قد تطرأ اتفقوا في البداية على أن يتم التنفيذ يوم عيد الفطر بعد أسبوعين قادمين لكن الظروف ساعدت على استباق العيد وتحقيق الضربة المباغتة في رمضان. كانت الظروف في الأساس بدأت تتداعى وهيأت التمهيد للتمرد العنيف منذ فترة. اختلطت الأمور في العراق الجمهوري الذي لم يستقر وحدثت الشروخ والصراعات والمزيد من الدماء.

في الرابع عشر من تموز 1958 كان قاسم مع رفيقه العقيد عبدالسلام عارف وغيره من ضباط الجيش العراقي قد وصلوا للإذاعة وقتلوا الأسرة المالكة ونوري السعيد ورئيس وزراء الأردن إبراهيم هاشم الذي كان يومها في بغداد لحضور لقاءات تتعلق بالاتحاد بين البلدين. كان ذلك اليوم شديد الاحمرار إلى أبعد حد. سالت فيه الدماء وسقط العديد من الضحايا. ثم مع الأيام بدأ الانقسام يحدث بين الأخوة وهو أمر معتاد في تاريخ الأمة!

كان السبب الرئيسي في الخلاف بين الصديقين قاسم وعارف هو الوحدة الاندماجية مع مصر. نتحد أو لانتحد. كان عارف متحمسا لذلك ومتعاطفا للانضمام السريع إلى وحدة مصر وسوريا، التي أعلنت في فبراير الذي مضى. قاده هذا الحماس إلى الدعوة لتحقيقه بعد شهرين (سبتمبر) من حدوث التغيير في بغداد ونتج عن هذا الحماس والاندفاع تفجر الحساسية البالغة بين الرجلين ولم تتوقف مع انجذاب عارف بشدة إلى الخطاب القومي الذي يلهب المنطقة المجاورة وأضحى تبعا لذلك في مواجهة مستمرة مع الزعيم وأنصاره وعلى حد قول شامل عبدالقادر في كتابه (الاغتيال بالدبابة) أن: (عبدالسلام عارف زج نفسه في خضم صراع أكبر من مواهبه وإمكاناته الفردية).

لكنها السياسة عندما تضع حدا محزنا وقاطعا للعلاقات بين أخوة الأمس مثل منشار حاد.

كان من الطبيعي جدا أن ينشأ هذا الصراع ويقوى كل يوم بحكم التكوين العسكري للرجلين ووجود الفوارق بينهما الذي ظل يؤكده على الدوام دخول المؤسسة العسكرية في قلب الأحداث. وفي الأصل كان لبعض الجيوش العربية الدور الوطني والتاريخي في مقاومة الاحتلال الأجنبي وصون الأوطان بعيدا عن السياسة وتأثيراتها.

وكانت بعض هذه الجيوش تتمتع بقيادات محلية وضباط كبار تربوا وتلقوا علومهم في مؤسسات حربية تابعة للمحتل وحاربوا معه في جبهات مختلفة على امتداد العالم. في مرحلة لاحقة استهوت هذه الجيوش لعبة السياسة ودخلت بواسطتها أبواب الإذاعات العربية بذريعة تحرير فلسطين والثأر للمواطن العربي المهان والقضاء على الأغلال التي تكبله من الرجعية والعمالة وما إليها.

كان هذا هو الخطاب الذي ظلت تعزف عليه كل الحركات العسكرية في العواصم العربية في طريقها من الثكنات في الضواحي إلى محطات الإذاعة ومع مضي الوقت أضحى لها الدور المؤثر والحيوي في السياسة وتفاصيلها وبعضها أيضا خاض أدوارا سيئة في قهر روح الإنسان العربي الذي نادت بتحريره عن طريق التحقيقات والمحاكم العسكرية وقضايا التعذيب والاستخبارات وأصبحت بعض هذه الجيوش أيضا تخضع لتوجيهات الحزب وسيطرته وتدين بالولاء له دون الوطن!

في كل الأحوال فإن قاسم الذي ظل يتهم بالشعوبية وتنال الأقاويل منه بكونه في الأصل شيعيا وتسخر من أمه ذات الأصول الشعبية البسيطة لم يكن يرغب في هذا الانضمام واعتبره إلحاقا وتبعية وذوبانا في الآخرين للعراق الكبير صاحب التاريخ والموقع والأهمية. وبات يؤكد على العراق أولا ومعالجة مشاكله وأزماته التي تمسك بخناقه.

كان يعرف الواقع تماما ووعى تداعيات حرب فلسطين وكارثتها عام 1948 التي شارك في خطوط نيرانها ضمن قوات الجيش العراقي وصولا إلى الهزيمة والنكبة.

وكان على اطلاع بتاريخ الأقطار العربية ونضالها وأذكر في هذا السياق ما رواه لي بعض رجال العهد الملكي في ليبيا بأنهم قابلوه في مناسبات مختلفة ووجدوه على معرفة كاملة بليبيا وتاريخها ومعجبا بكفاح أحمد الشريف وعمر المختار.

تطور الخلاف واتسع وانتهى إلى إبعاد عارف رفيق الأمس سفيرا في ألمانيا ثم محاكمته واعتقاله والحكم عليه بالإعدام. ولم تشفع لعارف العلاقة الوطيدة التي ربطت بينهما في معسكرات الجيش وعلى مستوى العائلة أيضا حتى أن الكثير من المصادر تؤكد بأن عبارة (ماكو زعيم إلا كريم) المشهورة كان أول من أطلقها عارف قبل غيره من زملاء التنظيم. مشهد الرجل الأول والرجل الثاني الذي لا يفارق الأذهان منذ إذاعة البلاغ الأول في الانقلابات العسكرية العربية وصراع الرفاق والصحاب والتصفية في صفوفهم. إنه يتكرر وينتهي بالتخوين والعمالة أو بالانتحار أو بالسجن أو الاغتيال أو المرض الطويل.

هنا أضحى الباب مفتوحا وواسعا للمزيد من التطاحن داخل الجيش المشهود له بالعراقة والكفاءة والحرفية العسكرية الخالصة. ظل جيشا سياسيا يمتلئ إلى رأسه بالولاءات والاتجاهات الحزبية المختلفة وهذا كله كما يلاحظ أتاح لخصوم قاسم أسباب النجاح مع مرور الأيام لضربه وإسقاطه إضافة إلى المعاناة القوية التي حاصرته جراء الخطاب الوارد والهادر كل لحظة من دولة الوحدة وصوت العرب الذي برع في تشويهه والإساءة إليه بلا توقف.

احتضن قاسم عبر هذا التصادم الشيوعيين وشجعهم في وجه القوى القومية والبعثية والناصرية. لم يكن شيوعيا ولعله كان يفكر في ضربهم خلال لحظة قادمة غير أن القدر لم يسعفه لتحقيق ذلك. ظل الشيوعيون في تحالف معه ودعوه بالزعيم الأوحد وهتفوا له دون أن تصاب حناجرهم بسوء ثم شرعوا في تصفية خصومهم بطريقة مرعبة وأقرب دليل على ذلك ماجرى في الموصل وكركوك عام 1959.

ورغم أن قاسم ظل إلى اللحظة الأخيرة عسكريا منضبطا يسكن ثكنة وزارة الدفاع في باب المعظم ويتناول وجباته في (سفرطاس) يأتيه من بيت أسرته وساند ثورة الجزائر وكان قادتها بدأوا بزيارة بغداد بعد إطلاق سراحهم عام1962 قبل أي عاصمة عربية أخرى واهتم بالفقراء من عامة الشعب وبنى لهم المساكن والأحياء وملك الأراضي الزراعية لمجموعات من الفلاحين في أنحاء العراق وخاض معركة البترول ضد الشركات الأجنبية وأصدر القانون الشهير رقم 80 بتأميم أغلب حصصها لصالح بلاده و حاول ضم الكويت لكنه تراجع.. رغم ذلك وكعادة الانقلابات العسكرية فقد لقي حتفه بطريقة لا تليق بما قدمه.

حوكم في ذلك اليوم مع بعض رفاقه في أستوديو الإذاعة على نحو عاجل ونفذ الحكم بالإعدام ونقل ذلك مباشرة على الهواء في التلفزيون العراقي. ثم ألقيت جثته مصفدة بالأثقال وغابت في نهر دجلة إلى الأبد وانتهت معركة اليوم الواحد عند الظهيرة. الرفاق البعثيون استولوا على الكراسي.

الحرس القومي يغمر بغداد بمليشياته ويستوقف الجميع في الطرقات ويداهم البيوت ويحقق مع الكثيرين ويقتل العديد بحجة الانتماء للحزب الشيوعي ومناهضة الثورة. انحرافات تفوق الحدود ومثلها سيتكرر في تاريخ العرب المعاصر المجيد! وبعد شهر في 8 أذار (مارس) سيصلون بدبابتهم إلى الإذاعة في دمشق وفي نوفمبر يضرب عبدالسلام عارف البعثيين ويبعدهم ثم يرتاحون منه في إبريل 1966. وتتكرر المآسي والمشاهد ويغرق الإنسان العربي في دوامة اليأس العميق.

العجيب في المفارقات أنه مع مضي هذه الأعوام الطويلة وتكرار التجارب المرهقة والمؤدية إلى الموت وتخلف الأمة يبقى العراقيون ومثلهم الكثيرون يشعرون بالحنين إلى الأيام السالفة وهم يزدادون حبا للملك فيصل الثاني آخر ملوك العراق وعبد الكريم قاسم أيضا فيما يعزز المؤرخون الرأي والقول بأن هذا الذي يحدث يعتبر أكبر مفارقة في التاريخ وفي الشخصية العراقية كذلك. ومثل ذلك أيضا ربما يعد مفارقة في تاريخ وشخصية شعوب أخرى!.

ومع هذا الذي يحدث في تلك المفارقات والعجائب يشهد التاريخ بكل تفاصيله في تقييم محايد بأن أربعة قادة عرب رحلوا وجيوبهم خاوية واشتهروا بالنزاهة ونظافة اليد قياسا بما وقع في مراحل وعهود تالية: الملك إدريس وعبدالكريم قاسم وجمال عبدالناصر والحبيب بورقيبة. مدرستان في السياسة العربية المعاصرة.

ثنتان منهما تمثلان المدرسة العسكرية والمواجهة وثنتان تمثلان الواقعية والحكمة. الدموية والصراعات على كل المستويات في دنيا العرب المعاصرة تظل لازمة ومتكررة مثل الأسطوانة المشروخة وتغري الصغار بالمزيد من الشراهة والأطماع فالدم يستدعي الدم. الحقد يجلب المزيد من الثأر والانتقام. دروس تقف عليها الأجيال العربية وخاصة جيوشها إذا ماحازت السلطة.. ولا تتعظ من تفاصيلها أو تشعر بالعار أو تحس بقليل من الحياء والخجل!