Atwasat

كتاب خلّد الغرفة 211

محمد عقيلة العمامي الإثنين 06 فبراير 2023, 01:45 مساء
محمد عقيلة العمامي

«عندما يلتقي العلم والموهبة في تخصص أدبي إنساني، يضم مناحيَ ومواضيع أدبية متنوعة ومتعددة في كتاب، يختلى به قارئ تجاوز عمره ثلاثة أرباع قرن، ولم يعد لديه ما يخشاه من عناد وتسلط البشر، يغمره خدر لذيذ كذاك الذي يغمر اختلاء حبيبين في ركن وثير الدفء، وما أن يشرع في تصفحه حتى تعبق روائح المسك والعود، وأحيانا العنبر، من أردان مفجرات الألعاب النارية في سماء أعياد السعادة والهناء..».

لعل مثل هذه الصورة الكلاسيكية، أو نحوها، هي المتداولة في توصيف كتاب أُخذ به كهل من زمن رومانسية الأدب العربي! وأنا في الغالب من أولئك الذين يبتعدون في كتاباتهم عن مثل هذا الأسلوب، ولكنني ظللت بسبب خدر ممتع غمرني بقراءة مواضيع «الغرفة 211» الذي أصدرته مؤسسة إيريتي للثقافة والفنون، وهو كتاب دوري يعتني بالثقافة والفنون الليبية، ويبدو أن الشاعر خالد مطاوع، هو رئيس تحريره.

إنه مشروع أتمنى أن تتواصل إصداراته، وتنتقى مواضيعه بالمستوى العالي الذي احتواه الإصدار الأول، فكل موضوع منه يحتاج إلى مقالة مستقلة، إن لم نقل دراسة متكاملة، لأن أيا منها كجراب الحاوي، يَخرج منها عجب من الألوان والأشياء، مواضيع ممتعة، فمثلا ما إن وصلت إلى رسائل الأديبين عاشور الطويبي وسالم العوكلي، حتى بدأت في تدوين ملاحظاتي لأكتب عنه، مثلما فعلت عن المواضيع التي سبقت، ولكنني أجلت ذلك كله، بعدما وصلت إلى إدراكات الشاعر خالد مطاوع، أستاذ الأدب والكتابة الإبداعية بجامعة ميشغيان بالولايات المتحدة الأميركية، فلقد أعادني أسلوبه إلى نصف قرن مضى من عمري، حينها كنت طالبا في كلية الآداب بقسم اللغة الإنجليزية، وكان الانتساب إلى هذا القسم ممنوعا، ولأنني تزوجت في سنتي الثانية بالقسم، ولم يعد بإمكاني الانتظام في الحضور في الثالثة، ولكن تعاون معي المسؤولون في ذلك الوقت، وتغاضوا عن غيابي، في حين فتح لي أغلب أساتذتي - الإنجليز - بيوتهم لتعويضي عما يفوتني، ولعل الدكتور (بابان) أستاذ الآدب الإنجليزي، وهو بريطاني من أصول عراقية، وكذلك مستر جونس أستاذ الشعر، وجرهام جون، الذي أصبح أحد أصدقاء الفاخري فحتى تخرجي سنة 1972 كان أساتذة قسم اللغة الإنجليزية بريطانيين، والحقيقية جميعهم ساعدوني، ناهيك عن رفاق دفعتي، غير أن أستاذ مادة الترجمة الدكتور محمد فرج دغيم ظل في مقدمتهم.

وقلّت لقاءتي اليومية مع الفاخري بسبب التزاماتي الأسرية، خصوصا خلال الفترة التي قضاها في الفندق الكبير بالغرفة «211»، وأعتقد أن غرفة المرحوم محمد القزيري كانت ملاصقة لغرفته. وكان يحلو للفاخري أن يقضي أوقات الظهيرة أمام المقهى الرياضي، أما العشية فأمام مقهى دمشق، الذي كان حينها بشارع عمرو بن العاص، وكانت زوجتي تمر بعربة طفلها في طريقها من شقتي نحو بيت الأسرة من أمام مقهى دمشق، حيث يقف الفاخري.

ذات مساء، بعد عودتي إلى بيتنا، قالت لي: «صاحبك طلب مني، عيني عينك، مكرونة!» أخبرتني أنها عند مرورها من أمامه تحدث بصوت عال متذمرا قائلا لشخص واقف بجانبه: «غريب أنا في بنغازي، سوف أهاجر، يا أخي ( خاطري في مكرونة جاريه بالقديد..) لم أجد مخلوقا واحدا من أصحابي (يعزمني).. لا حول الله». ضحكت وانتبهت إلى أننا لم نلتق لأكثر من أسبوع فأعددت (طنجرة مكرونة) وأخذتها له في الفنادق. فتح الباب وضحك، رفع غطاء (الطنجرة) ونظر إلى ما بداخلها، والتفت نحو محمد القزيري وقال له: «قلت لك (خوّج) لم تصدقني.. كنت أراقب زوجته كل يوم تمر بعربه طفله مختلفة عن سابقتها.. تنتقي في ألوان تتناسب مع ألوان موضة فستانها الإيطالي! (خش) ما تجو إلا بالهزايب.».

كانت غرفته كناد حقيقي لا تخلو من رفاق له، وكانت (النكتة والقفشة) والشعر متصلة طوال الجلسة، وما كان يخطر في بالنا حجم المعاناة والحزن، اللذين يعتملان في صدره إلا بعد نشر مقالته «الغرقة 211». ولقد تناولت موضوعها في أحد مقالاتي، ولكنه لم يكن بالمستوى الذي تناول به الشاعر خالد مطاوع في إدراكاته! موظفا علمه الذي أنعش به ذاكرتي وهو يحلل ويفسر جمله وكلماته وصوره البليغة، موظفا علمه وتخصصه، ومستخلصا وملتقطا بعناية من «المنهج السيميولوجي «كلمات التناص فأوصلنا بسهولة إلى «البنية النصية»، التي قارنها بما يلتقطه من أعمال كتاب عالميين سبقوه فنهج نهجهم، وفي تقديري أنه كان موفقا للغاية في اختياره للروائية البريطانية فرجينيا وولف، التي تعد من أدباء العصر الحديث، والأكثر تأثيرا في مجتمعها، وأيضا قراء لغتها، وكذلك ترجمات أعمالها، فهي كاتبة مقالات بديعة ومؤثرة من الدرجة الأولى، تماما مثل الفاخري، آخذين في الاعتبار، أن الفاخري قبل أن يرحل لدراسة اللغة الإنجليزية كان قارئا جيدا، شأن جيل الستينيات، الذين أخذتهم تراجم منير بعلبكي لإبداع الكتاب الغربيين، وفرجينيا وولف كانت أحدهم.