Atwasat

من السنوسي الكبير إلى معمر القذافي

عمر الكدي الأحد 05 فبراير 2023, 01:01 مساء
عمر الكدي

أسرة «الوسط» ترحب بعودة الكاتب الشاعر، عمر الكدي، بعد تعافيه من الوعكة الصحية التي تعرض لها، وأبعدته عن قرائه مدة طويلة، وهو الذي عرف بقلمه الرشيق، ورؤيته الرصينة، عبر مقالات الرأي التي عرفها قراء ومتابعو جريدة «الوسط»، وموقعها الإلكتروني «بوابة الوسط».

--------------------------------------------------

لم يُولد محمد بن علي السنوسي في الصحراء، إنما ولد في مدينة مستغانم في أقصى الغرب الجزائري، حيث تنحدر الهضاب الخضراء إلى زرقة المتوسط، ربما لهذا السبب وجد شيئا من وطنه عندما استقر في الجبل الأخضر بليبيا فترة قصيرة، قبل أن يلجأ إلى الصحراء حيث توفي في الجغبوب العام 1859.

ما بين وصوله إلى الجبل الأخضر وخروجه إلى الصحراء قطع السنوسي الكبير الصحراء الكبرى عدة مرات، قبل أن يجد المكان المناسب لحركته الإصلاحية، في محاولة للنهوض بأمة أخذ يتناهبها المستعمرون الأوروبيون، فعندما وصل إلى الجبل الأخضر في المرة الثانية كانت بلاده الجزائر قد سقطت في يد الفرنسيين.

لم يُعد السنوسي اختراع العجلة. اعتمد نفس الطريقة لبناء دولة. كانت دولة الأدارسة والموحدين والمرابطين والفاطميين والعلويين والرستميين قد اعتمدت الطريقة ذاتها. الدعوة الدينية والعصبية القبلية، وهي الطريقة التي درسها ابن خلدون وهو ينتقل بين الأندلس والصحراء الكبرى.

الجديد هو سلسلة الزوايا التي شيدها السنوسي في برقة وطرابلس وفزان ومصر وشمال تشاد وغرب السودان، حتى وصل عددها إلى 46 زاوية، تحولت إلى مراكز تعليمية ومراكز للقضاء والتجارة والتدرب على السلاح. لم يعتمد السنوسي دعوة ثورية تختلف مع الإسلام السني السائد، ويمكن القول إن السنوسية دعوة سلفية تهدف إلى العودة إلى أصول الإسلام، وتنقيته من البدع المهددة لمبدأ التوحيد.

إسلام متسامح بنفحة صوفية ركيزته العدل والمساواة بين الأتباع وفقا للكفاءة، وهكذا في فترة وجيزة أصبح عبدالله قجة التشادي يقود شيوخ قبائل السعادي والمرابطين. اختفى التقسيم الهرمي لقبائل برقة الذي تحتل قمته قبائل السعادي ثم مرابطو البركة وأخيرا مرابطو العصا والزبل.

لم يعش السنوسي ليرى شجرته مثمرة. توفى وابنه محمد المهدي لم يبلغ سن الرشد، فشكلت لجنة وصاية من عشرة أشخاص أشرفوا على إدارة الحركة، وبقى المهدي 37 سنة لم يغادر الجغبوب التي تحولت إلى عاصمة للسنوسيين، وقاوم كل محاولات الاستقطاب من السلطان العثماني ومهدي السودان، وأحمد عرابي، وتوغل في الصحراء حتى وصل إلى الكفرة، واستشهد وهو يدافع عن زواياه في شمال تشاد أمام الفرنسيين العام 1902.

ثم اضطرت الحركة لمواجهة الغزو الإيطالي لشمال ليبيا، قبل أن يغزو الجنرال غراسياني الكفرة، وكأنه يقود فرقة أوغستا للقضاء على جرمة، وقبل أن يرتكب خليفة المهدي أحمد الشريف الخطأ الذي تحاشاه المهدي، عندما قاد قواته للهجوم على القوات البريطانية، وترك خلفه القوات الإيطالية.

القذافي ولد في الصحراء عكس المهدي والسنوسي الكبير، حتى أننا لانعرف أين ومتى ولد بالتحديد، وكانت المدن مجال حركته. سبها الشرارة الأولى، وبنغازي البيان الأول، وعاش معظم سنوات حياته في باب العزيزية في طرابلس، وعندما أصبحت سرت مدينة حديثة أطلق عليها اسم الرباط الأمامي.

وعلى الرغم من أن القذافي أمر بجرف ضريح السنوسي الكبير، فإنه كان يستبطنه في لا وعيه، ويقلده دون أن يدري من خلال طريقة بناء حركة اللجان الثورية وبناء المثابات الثورية بدلا من الزوايا، ومحاولة بناء دعوة أساسها مقولات الكتاب الأخضر، ولكن شتان بين الرجلين، فالسنوسي لا يكره المدينة وهو الذي نشأ وترعرع في مستغاتم قبل أن يشد الرحال إلى مدينة فاس لمزيد من التعليم، وهو يدرك أن بناء المدينة هو أول لبنة لبناء دولة جديدة، مسترشدا بجده نبي الإسلام، الذي غير اسم يثرب إلى المدينة بعد هجرته إليها.

من يقرأ كتاب القذافي «المدينة القرية القرية وانتحار رائد الفضاء»، يدرك حجم الكبت والخبل والكراهية للمدينة. السنوسي الكبير وخليفته أدركا أنهما ليسا في حاجة إلى المدينة في مرحلة بناء الدعوة، ولكن الدعوة عندما تنتصر ستبني مدينتها التي قد لا تكون طرابلس أو بنغازي، ولكنها ستدير دولتها من مدينة ما، قد تكون أي زاوية ذات موقع مناسب، ربما لهذا السبب اهتم الملك إدريس بمدينة البيضاء، التي بنيت حول زاوية البيضاء.

كان القذافي يمثل البدوي والريفي الذي شعر بعداوة المدينة عندما دخلها أول مرة. كلمة شلافطي التي أطلقها أولاد المدينة على الوافدين كونت جرحا نرجسيا لا يندمل.

من بين أعضاء مجلس ما يسمى قيادة الثورة فقط ثلاثة أعضاء جاءوا من المدن، ومنذ البداية قرروا الابتعاد، بينما حاول الرابع الانقلاب على القذافي على الرغم من أن مصراتة كانت مدينة صغيرة، لكنها لم تخل من علاقات مدينية.

يروي عبدالسلام جلود في كتابه «الملحمة»، والعنوان يشير لهذه الذات المتضخمة، أنه عندما وصل إلى طرابلس منع من دخول جميع مصائف المدينة، ربما لهذا السبب عاش في المصيف البلدي أكثر مما عاش في بيته في الظهرة، والغريب أن القذافي توسع في بناء المدن خارج المدن القديمة، حتى تحولت سرت إلى مدينة عصرية، بينما تحولت طرابلس إلى مكب للنفايات.

وكأن مرحلة القذافي هي طنجرة ضغط وضع فيها الجميع. أبناء المدن بنرجسيتهم العالية وأبناء الريف والبادية بجروجهم النرجسية. لهذا أطلقوا اسم الملهاد على طريق قرقارش، بينما قال وزير الداخلية في بداية حكم القذافي الخويلدي الحميدي: لو وجدنا طريقة لجر المدينة الرياضة لألقينا بها في البحر.

مات السنوسي الكبير قرير العين في الجغبوب، واستشهد ابنه وهو يقاتل في الصحراء، وقتل القذافي في مشهد صحراوي وهو يتساءل ماذا حدث. تساءل ذات مرة هل الموت ذكر أم أنثى، وهو يموت أدرك أن الموت ذكر، وأن المدينة التي احتقرها عجلت بنهايته سواء كانت بنغازي الشرارة الأولى، أو مصراتة الطعنة الأخيرة أو طرابلس نهاية المطاف.