Atwasat

علاقتي بالقاهرة ومدبولي وما بينهما..! (2-2)

سالم الهنداوي الثلاثاء 31 يناير 2023, 02:46 مساء
سالم الهنداوي

جاءت مبادرة مدبولي في أن بعث برسالة إلى نزار قباني قال فيها‏:‏ لا تترك أحدا يحرق الجسور بينك وبين جمال عبد الناصر. أكتب إليه شارحا دوافعك النبيلة في كتابة القصيدة‏، فعبد الناصر زعيم قوي‏، لا يرتعش من قصيدة‏، ولا يخاف من غضب الشعراء‏.
وبالفعل أرسل نزار قباني رسالته الشهيرة إلى جمال عبدالناصر‏،‏ والتي قال فيها‏:‏ وإذا كانت صرختي حادة وجارحة‏،‏ فلأن الصرخة تكون بحجم الطعنة، والنزيف يكون بمساحة الجُرح‏.

لم يكن بإمكاني وبلادي تحترق، الوقوف على الحياد، فحياد الأدب موت له‏،‏ فالذي يحب أمته يا سيادة الرئيس يطهِّر جرحها بالكحول ويكوي، إذا لزم الأمر، المناطق المُصابة، بالنار‏.‏ ولم يطل صمت عبد الناصر‏، فسمح لمدبولي بتوزيع أشعار قباني وتداولها، وبذا انفتحت أبواب مصر لشاعرها العربي.

وتلك حادثة تاريخية تسجَّل للحاج مدبولي على قدر دعمه للثقافة العربية وحق القارئ في المعرفة مهما اختلفت الآراء وتباينت حول الفكر والسياسة والأيديولوجيا، وهذا ما يجعله يبيح نشر كل الثقافات على اختلاف مستوياتها شرط ألاَّ تسيء للذات الإلهية، وهو بالضبط ما حدث بَعدها مع الكاتبة «نوال السعداوي» عندما أعدم أحدث طبعتين من كتابيها «سقوط الإمام» ومسرحية «محاكمة الله أمام مؤتمر القمة» باعتبارهما يسيئان للذات الإلهية.

كنتُ كلما نزلت إلى القاهرة أمرُّ عليه فور وصولي، لأتسلم منه بعض هدايا كُتب الأصدقاء. ولأنني لا أمكث طويلاً في القاهرة، فقد كان مدبولي هو المؤتمن دائما على رسائلي بين الأصدقاء، ومن موقعه في القلب ومن وسط البلد، كان خير وسيط بيننا وخير صديق وخير جليس. ولعل هذا الاعتياد كان أحد أهم أسباب ارتباطي بطبائع شيخ الناشرين العرب وبشخصه النبيل الذي جعلني أحافظ على تقاليد زيارتي له في كل مرَّة.

أتناول معه الكوب الأول من «شاي الكشري» وأستعيد معه الحكايات التي مضت بنا في الزمن. كان مدبولي مثل خزانة معرفة على زمن لم أعشه من قبل وإن قرأته في روايات مصر القديمة وشاهدته على شاشة السينما القديمة واستمعتُ إليه عبر إذاعة «صوت العرب» وفي أشعار صلاح جاهين وعبدالرحمن الأبنودي.

حكى لي مدبولي ذات مرَّة عن حادثة «نجيب سرور» عندما هام يبيع ابنه في ميدان طلعت حرب وهو يصرخ في وجه الجوع.

وحكى لي عن علاقته بأحمد فؤاد نجم والشيخ إمام وعن علاقاته بمثقفين كبار نشر لهم ثم رحلوا وتركوه وحيدا مع طلعت حرب لمنتصف الليل. لكنه وقد عاش مع الكِتاب أكثر من ستين سنة، كان حاضرا أيضا مع أجيال تعاقبت من مثقفين عاصر محناتهم كما عاصر محنات أسلافهم، ومن قدره المحتوم أن يرى مصر في ضمير كل هؤلاء الذين رحلوا وكل الذين كانوا يمرُّون عليه حتى وفاته عن عُمر ناهز السبعين، وقد عاش حياة الناس ببساطة، يلامس أوجاعهم كما يلامس كل يوم ورق الجرائد والمجلات والكُتب.

منذ تعرَّفتُ إليه أول مرة في نهاية الثمانينيات، سألني عن روايتي «الطاحونة» التي كان قرأ عنها في مجلة «روز اليوسف» في حينها، وهو الاهتمام الذي حرص عليه منذ ذلك الزمن. فكان يسألني عنها مرارا دون بقية أعمالي اللاحقة التي كانت تصدر تباعا في ليبيا وقبرص ولبنان، وهو الاهتمام اللافت الذي جعله بعد مرور كل تلك السنوات يفوز بتقديره الخاص لـ «الطاحونة» ويعيد نشرها بعد ربع قرن من طبعتها الأولى، فكانت العمل الأول الذي يصدر لي في القاهرة، وعن مكتبة مدبولي بالذات.

وربما أيضا كنتُ أول كاتب ليبي ينشر له مدبولي. فكان لهذا الاهتمام الكبير موضع تقدير خاص أكنّه لمدبولي «الإنسان» الذي مثلما تعاقدتُ معه على نشر أعمالي في مصر، تعاقدتُ معه على الحُب والتقدير، والوفاء له حيّا وميتا.

مكتبة مدبولي لم تكن تضيق فقط بالكُتب العامرة، وإنما كانت تضيق أيضا بأفكار عقول تنهل من ذلك الميدان وتكبُّ جوالات أوجاعها في حضن مدبولي «الإنسان» الذي كان «أبوالمصريين» الذي عاش معهم قدر العيش المُر. فهو ليس من سلالة صعيد سوهاج فقط، وإنما أيضا من سلالة قُرى «الجيزة» التي كانت كلما التهمتها القاهرة الكبرى، صارت في قلبها وفي صميم أوجاعها.

ولم يكن مدبولي شاهدا فقط على المعارك الثقافية بين مختلف التيارات الفكرية التي عاشتها مصر خلال العقود الماضية، ولكنه كان شاهدا أيضا على أزمات الماضي والحاضر معا. فكان بذاته المصرية السمراء وجلابيته الصعيدية، وبذاكرته الشعبية الثقافية، ومن موقعه بميدان القاهرة الكبرى، أهم مثقف شفوي حفظ تاريخ مصر عن ظهر قلب.

فكل المثقفين الذين عرفهم ونشر لهم أفكارهم في سلسلة منشوراته المتنوعة في الفكر والفلسفة والتاريخ والأدب والسياسة والاقتصاد، كانوا في ذاكرته علامات فارقة استوعبت تاريخها الكامل، ولعله كان يحفظ للكثيرين منهم ما لم تستطع أن تسطره أقلامهم على الورق.

كان عندما يحكي لي عن تلك الشخصيات التي عرفها عن قرب ونشر لها عن قرب، أراها أمامي عن قرب ماثلة تعبر الميدان في مشوارها اليومي إلى مقهى ريش أو مقهى البستان، رأيت أمل دنقل، ورأيت نجيب سرور وصلاح عبدالصبور، ورأيت العقاد والمازني وطه حسين، ورأيت محمود تيمور ويوسف إدريس ومحمد عبدالحليم عبدالله وإحسان عبد القدوس وثروت أباظة، وفي هؤلاء جميعهم رأيت في وجه مدبولي سعد زغلول ومصطفى النحاس، ورأيت أحمد شوقي ولطفي المنفلوطي ورأيت سيد درويش وأحمد رامي وأم كلثوم والكحلاوي وعبدالمطلب. رأيت نجيب الريحاني ويوسف وهبي وزينات صدقي وماري منيب وتحية كاريوكا.

رأيت شكوكو وإسماعيل ياسين وعبدالسلام النابلسي والشاويش عطية ومحمد رضا ومحمد عوض، ورأيت توفيق الدقن ومحمود المليجي وفريد شوقي وستيفان رستم ورشدي أباظة ويحيى شاهين وعماد حمدي وشكري سرحان وأحمد رمزي ويوسف فخر الدين وعبد المنعم إبراهيم وفاتن حمامة وسميرة أحمد وزهرة العُلا وماجدة ومريم فخر الدين ولبنى عبدالعزيز.

رأيت مصر القديمة التي كنت أشاهدها في السينما القديمة، سمعتُ فريد وعبد الوهاب وسيد مكاوي وليلى مراد وأسمهان وشادية وهدى سلطان، ورأيت شباب مصر في نادية لطفي وسعاد حسني وعبد الحليم ومحرم فؤاد ومحمد رشدي ومحمد قنديل.

ورأيت الملك فاروق واحتلال الإنجليز واحتراق القاهرة، ورأيت ثورة 23 يوليو/ تموز والعدوان الثلاثي، ورأيت نكسة يونيو/ حزيران 67 وعبور أكتوبر/ تشرين الأول 73، ورأيت الانفتاح وكامب ديفيد ومصرع أنور السادات.. ورأيت طلعت حرب وحيدا يبكي مدبولي في شتاء ديسمبر 2008.