Atwasat

(ربيع وطن.. نواره سبق)

محمد عقيلة العمامي الإثنين 30 يناير 2023, 01:15 مساء
محمد عقيلة العمامي

طوال نصف قرن، لم ينقص منها سوى سنوات القطيعة مع مصر، لا أذكر أنني تخلفتُ، عن حضور معرض القاهرة للكتاب، الذي لم يكن مجرد معرض، بل عرسا عربيا يتوج بحفل يومي بالمقهى الثقافي، حيث يلتقي رواد المعرض الليبيون مع بقية كتاب وأدباء وشعراء الوطن العربي، وبالمناسبة كان أكثر الكتاب الليبيين قدرة ونشاطا في تعريفنا، وتقديمنا، إلى الكتاب العرب هو صديقنا طيب الذكر الكاتب زياد علي، شفاه الله وعفاه.

وبعد ما يقفل المعرض أبوابه اليومية، تتواصل اللقاءات المسائية حتى الفجر في المقاهي، والتجمعات الثقافية والأدبية، والأخرى الأدبية جدا! كانت تلك الليالي كعيد متنقل وفرح راقص ضاحك في ليل القاهرة البهية.

ثم نُقل المعرض إلى مكان واسع بصالات فخمة تتوسطها مقاه ومطاعم عديدة وحديثة وكراسٍ وموائد مريحة، وقوائم وجبات لمأكولات يندر أن تجدها مُتجمعة في ميدان فسيح، كتلك الفسحة التي تتوسط قاعات المعرض.
حداثة أنيقة فسيحة عالمية، لم ينقصها شيء سوى سور، كسور الأزبكية! ومقهى ثقافي يجمع المهتمين بالكتب، أكثر من اهتمامهم بقوائم الطعام.

حتى الآن لم أغب عن هذا المعرض، وهو جيد التنظيم وفائق الحداثة بعد انتقاله إلى مكانه الجديد. صحيح أن زياراتي له لم تعد يومية، ولا ليلية للقاءات الأصدقاء، فلا حديقة (الجريون) ولا (ستيلا)، ولا (استوريل)، ولا مقهى ريش، خصوصا بعدما رحل عنا الكثير من الأصدقاء، ناهيك أنني لم أعد "أنا هو أنا"، ولا هم كذلك!

هذه السنة اتصل بي صديقي الأستاذ محمد على الشويهدي، وسألني عن أحوال المعرض، وهل زرته أم لا؟ وأخبرني أنه تعذر مجيئه إلى القاهرة لحضوره، وطلب مني أن أحضر معي نسختين من روايته الجديدة (ربيع وطن).

تعود علاقتي بأخي الشويهدي إلى مطلع ستينيات القرن الماضي، والآن من بعد ستين عاما أقول لكم إنه كان ضمن شلة تعد بالنسبة لي أخوتي الكبار، فجميعهم أكبر مني سنا ومقاما، كان لنصحهم المتصل، والسؤال عني إن غبت دائما وجميل الأثر، فلقد عملت بنظارة الأشغال العامة، بعدما اجتزت المرحلة الابتدائية، وهناك التقيت بأخي وصديقي المرحوم إبراهيم سعد الربع، ومن خلاله تعرفت على شباب السوق القبلي بسيدي حسين، منهم الشويهدي والمتابع لكتاباته لا بد أنه انتبه لهذه الشخصيات، فهي دائمة الحضور خصوصا في رواياته.

وسبق أن كتبت حكاية ومسيرة الأستاذ محمد الشويهدي، وكيف أنه مارس عديد الوظائف، وأوفد في بعثات دراسية، ولكنه كان يعي أنه ولد ليكون كاتبا، فمارس الصحافة، وكتابة القصة القصيرة، والمقالة الصحفية، وترأس تحرير عددٍ من الصحف، والمجلات المهمة، وتقلد مناصب متعددة قيادية. وكثيرون لا يعرفون أنه كاتب أغان ليبية متميزة، وله العديد منها كان يذاع عبر الإذاعة الليبية.

ولماذا أقول لكم ذلك؟ لأنه أخبرني أنني أعرف شخصيا بطل روايته الجديد (ربيع وطن)! ولكنه لم يفصح عنها، ولذلك عندما قرأتها عرفتها وتبسمت وذُهلت!

والحديث عن الرواية سوف يفسد متعتها، فأسلوب الشويهدي، ودقته في نقش كلماته، وحرصه الشديد على قواعد جُمله ممتع حد الزهو! وتكثيفه لأحداث قصصه جعلت من روايته (السوق القبلي) مجموعة روايات فكل شخصية ينتبه المتابع إلى أنها بطل لرواية مستقلة، ولقد كتبت ذلك في حينه، بعد ما أخبرته عن وجهة نظري، إذ قلت له إنها بالإمكان أن تكون مجموعة روايات فكل حدث وشخصية وهي، في الواقع حقيقية، هو مشروع لرواية قائمة بذاتها، تماما مثلما كتب نجيب محفوظ، ثلاثيته الشهيرة، فالزمن والمكان ومعظم الشخصيات واحدة، ولكن في ثلاث روايات. وهذا وجدته في السوق القبلي.

أقول لكم إنكم سوف تتبسمون، وقد تنذهلون، مثلما حدث لي بعد ما قرأتها! ومع ذلك إليكم اقتباس مما ورد في الرواية، لعله يشي ببعض من مواضيعها، يقول:
"إن الإبداع في الغالب قليل من الحقيقة وكثير من الخيال لكن وقائع "ربيع الوطن" فاقت كل خيال فوجدتني أُراوح حائراً بين وهن الخيال وعنفوان الواقع، أرقٌ، عجزْ، قلق في تيه لا تلوح في شتاته شطآن..

ثم يتطرق إلى رسائل تبادلها مع الشاعر الكبير نزار قباني، الذي يسأله نزار في إحداها، عن حاله، من بعد أن عصفت بهما رياح الربيع العربي الحارقة!

(... يا صاحبي صارت ترفضنا كل الأمصار، وأعلن على الواحد منا حظر التجول في جميع البراري والمنافي والأجواء والبحار الواحد فينا يا نزار إرهابي وقاتل و مهرب أفكار، يرحّل حيثما وجد مخفوراً بالدرك والضآلة والهوان إلى أوطان الربيع والياسمين «مُكمم الفم متخشب اللسان).

ويستطرد قائلا:
... قررت يا سيد الشعر المقاتل أن أبقى في وطني، أن أقضي ما تبقى من أيامى في مدينتي بنغازي أتحايل على الديناصورات الكثر كما يتحايل المصارع الإسباني النحيل، الرقيق، اللماح، السريع الفِطنة على الثور أشغله بالوشاح بالحركة الأنيقة، لكني، أشهر قلمي، أقاتل في مذبحة الحبر والورق في حرب فرضت علينا، وهي كره لنا، حتى أعثر على عشبتي الخرافية أو أٌوارى في ثرى بنغازي شهيداً شأنك في ثرى دمشق الفيحاء.
و لك من أخيك الحب كله".

وهذا ما يفعله الشويهدي الآن، ولأنني أعرفه جيدا، وأعرف تجربته الثرية، وذاكرته المتقدة، ناهيك أنه شخصية دقيقة ومنظمة ومنتظمة، وفوق ذلك يعي جيدا أن ذكرياته وأراشيفه وحكاياته وتجربته الطويلة من ستينيات القرن الماضي حتى الربيع العربي هي تأريخ لبلادنا، وحقنا عليه، وهو الصادق القادر أن يسردها لنا عن هذا الربيع الذي قالت عنه غناوة العلم:
"خبط شبوب بدري صيف... نواره سبق ماه يا علم"
مبروك لنا وللأستاذ محمد علي الشويهدي روايته الجديدة.