Atwasat

دولة القصر.. دولة الخيمة ودولة اللصوص

عمر الكدي الخميس 26 يناير 2023, 02:45 مساء
عمر الكدي

ثمة لبس في معنى كلمة دولة في المعاجم العربية، وإن اتفقت جميعها على أنها تعني الاستيلاء والغلبة، إلا أنها تعطي أيضا معنى معاكسا لنفس الكلمة، والتي تعني الزوال والانتهاء. دالت دولة الظلم أي زالت وبادت، كما تعني شيئا متداولا من مال ونحوه، ومن هنا جاءت كلمة متداول ومداولة، فمثلا يقال تداول أعضاء البرلمان قانون الجنسية، أي أخضعوه للنقاش والمشورة وصولا إلى التوافق، وهذا المعنى هو ما ينطبق على ما يجرى في الدولة الحديثة أي عكس الاستيلاء والغلبة.

ويبدو أن معنى كلمة دولة بمفهومها الكلاسيكي ترجمة دقيقة لتاريخ ظهور ونهاية الدول في هذه المنطقة كما بيّن ذلك عبدالرحمن بن خلدون في مقدمته العظيمة، وهنا أتساءل هل امتلك ابن خلدون عقلا استثنائيا تمكن من النفاذ إلى بنية العقل السياسي العربي في كل العصور؟ أم أن التاريخ يعيد نفسه في هذه الربوع كما كان عليه في عصر ابن خلدون؟ وللأسف كما قال ماركس، فالتاريخ يعيد نفسه مرتين. مرة على شكل تراجيديا ومرة على شكل كوميديا، وها نحن نعيش زمن الكوميديا، وإن عاصر بعضنا زمن التراجيديا.

في اللهجة الليبية لا يختلف معنى كلمة دولة عن المعاجم العربية. يقول الليبيون كل دولة ورجالها، وعندما يختلفون حول أي مسألة يقولون: «عد رجالك وورد الماء»، وهو ما يناقض تعريف كلمة دولة في المعاجم الحديثة في معظم اللغات، والتي تعني: مجموع الأفراد الذين يعيشون في إقليم جغرافي واحد ويخضعون لنظام سياسي وإداري متفق عليه، وهذا الحد الأدنى من التعريف الذي يتسع ويتفرع ليشمل أنواع الأنظمة السياسية وطرق التداول السلمي على السلطة.

جرب الليبيون دولة القصر على الرغم من أن الملك إدريس لم يعش في القصور، فقصر الخلد بطرابلس كان مقر الحاكم العسكري لليبيا الجنرال بالبو، وبعد سنة 1964 ترك الملك القصر وفضل، ربما لأسباب صحية، الإقامة في طبرق، بينما تبرع بالمبنى الذي خصصته له الحكومة في بنغازي للجامعة الوليدة، وذات مرة وجدت في غريان اللجان الثورية وهم يهتفون خلف البلدوزرات التي جرفت مبنى متواضعا كان يقيم به أطفال جبهة البوليساريو، بحجة أنه قصر الملك إدريس، فقلت لهم يبدو أن الملك كان «بروليتاريا». في ذلك الوقت كانت شركة «بلفنجر» الألمانية تبني استراحة للقذافي في جندوبة. تميزت دولة القصر بحضور معظم مؤسسات الدولة الحديثة. الدستور والجيش والمؤسسة الأمنية. مجلس النواب ومجلس الشيوخ والقضاء المستقل، الذي حكم بعدم دستورية مرسوم الملك بحل المجلس التشريعي لولاية طرابلس، كما أن مصلحة النظام الملكي لم تتعارض مع مصلحة المجتمع، ويؤخذ على دولة القصر منع النشاط الحزبي، وزهد الملك في الحكم، حتى إن الملك الحسن الثاني قال: فعل الملك إدريس كل ما في وسعه للتفريط في ملكه، كما يؤخذ عليه ضعفه أمام الحاشية، خاصة عائلة رفيقه وصفيه إبراهيم الشلحي، وعدم ثقته في الشباب الذين تولوا الوزارة، وفي مقدمتهم المرحوم عبدالحميد البكوش، بالإضافة إلى نفيه لزعيم حزب المؤتمر بشير السعداوي، ولكن رجال دولة الخيمة لم يجدوا الفساد الذي ضخموه خلال محاكمتهم لرجال دولة القصر، ويبدو أن الملك الزاهد كان أسعد الناس بانقلاب دولة الخيمة. أخيرا أصبح حرا وعاد ليعيش في منفاه المصري الذي عاش فيه منذ وصول الفاشيين للسلطة في إيطاليا.

تتميز دولة الخيمة بغياب كل مؤسسات الدولة، فلا وجود للدستور وفيما بعد دمر القذافي بشكل ممنهج الجيش الذي جاءت منه معظم المحاولات الانقلابية، كما جرم الحزبية وألغى التجارة وأمم كل شيء حتى دكاكين البقالة، واحتكر السلطة التشريعية والتنفيذية، وأصبح صاحب الخيمة هو المفسر الوحيد لكتابه الأخضر، الذي وضع فيه الحلول النهائية لمشاكل البشرية كافة، وهو ادعاء طفولي لم يجرؤ عليه أصحاب العقول الجبارة التي أنجبتها البشرية، وذات مرة أمر بنحت الكتاب الأخضر على ألواح الرخام وأمر البحرية الليبية بإلقائها في جميع بحار ومحيطات العالم، تحسبا لأي حرب نووية تنهي الحياة على كوكب الأرض، وبعد الكارثة سيجد الناجون أو ربما سكان الكواكب البعيدة نبراسا يسيرون على هديه. باختصار دولة الخيمة هي دولة اللادولة، وذات مرة في اجتماع لمجلس الوزراء اندفع أحمد إبراهيم للتبشير بقرب إلغاء النقود، فقال له عبدالمجيد القعود: «بالله خلونا القرشين باش نشروا فردة خبزة»، وكل ما قاله القذافي في بيانه الأول صبيحة انقلابه فعل عكسه طوال حكمه الطويل، وأعفى نفسه من المحاسبة وخوض الانتخابات بعد أن ادعى أنه سلم السلطة والثروة والسلاح للشعب، ووصل الهوس حتى أصبحت اللغة غير مفهومة حتى لليبيين، خاصة عندما كان يقول شعبية الشعبية.

يعيش الليبيون الآن في ظل دولة اللصوص، التي تتميز بغياب الدستور والمؤسسات الدستورية، وفي دولة اللصوص تنقسم الحكومة إلى حكومتين وربما أكثر، والبرلمان إلى اثنين، بالإضافة إلى غياب الجيش المحترف وطغيان الميليشيات، فالجيش الذي يقوده محرر جزيرة الفرنامج ليس إلا ميليشيات وإن حملت اسم الجيش الوطني، كما تتميز دولة اللصوص باستقواء أطرافها بالقوى الإقليمية والأجنبية، والاستعداد للتنازل عن السيادة الوطنية، والتملص من أي التزام حتى ولو وقعوا تعهدا أمام ممثلي المجتمع الدولي ومبعوثي الأمم المتحدة، وفي الأخير تحولت كل الأطراف إلى رهائن بيد زعماء الميليشيات، مثلما حدث في أواخر الدولة العباسية، ومثلما حدث في ليبيا في بداية تأسيس الدولة القرمانلية، قبل مذبحة الانكشاريين على يد أحمد باشا، وبهذه المناسبة أحذر زعماء الميليشيات من تلبية أي دعوة لوليمة باذخة، وأطلب من اللصوص أن لا ينسوا مصير القذافي، فالليبيون لا يحاسبون ،فهم ينفذون الأحكام ثم ينظرون في الطعن بعد التنفيذ، وما يحدث في العراق سيتكرر في ليبيا، بعد أن اكتشف الأمريكيون أن البنوك العراقية مجرد آلة لغسل الأموال لصالح إيران، مما أجبر رئيس الوزراء على الاعتراف بتسرب 300 مليون دولار يوميا خارج البلاد.