Atwasat

بحجة جارك أخرب دارك

سالم العوكلي الثلاثاء 24 يناير 2023, 01:02 مساء
سالم العوكلي

الميليشيات تمثل مظهر خروج عن القانون أو السياق العام للدولة، وهي لا تشكل خطرا فقط على أمن الدولة واستقرارها لكن على وجود الدولة أو الأمة من الأساس، أو على الأقل على سيادة الدولة التي ما عادت تحتكر القوة عبر مؤسساتها الوطنية، لأنها تفتح مجالا أو فروعا للقوى الخارجية الداعمة لها كي توجد بأجنداتها على الأرض، كما تخلق خطرا على الجيران القريبين والبعيدين.

وتُعرِّض الدولة مرارا للاجتياح الخارجي أو للدعم العسكري والمالي الذي يقوض وحدة الدولة واستقرارها، وتزداد خطورة هذه الميليشيات حين تكون خادمة لعقائد أيديولوجية عرقية أو مذهبية أو جهوية، كما يحدث في لبنان والعراق وليبيا واليمن وسورية.

تُحوِّل الميليشيات المدعومة أو الممولة من الخارج الدولةَ إلى مكب لنفايات العالم المدمرة، أو ساحةٍ لتجربة الأسلحة الفتاكة، أو مقرٍ للصناعات والمختبرات الخطرة، كما حدث مع مخازن نترات الأمونيا في ميناء بيروت، وكما حدث في كولمبيا فترة تغول الميليشيات، أو يحدث الآن في العراق، وكما يحدث في أوكرانيا التي تحولت أرضها إلى قنبلة بيولوجية تشكل خطرا على المنطقة والعالم، تتحكم فيها الميليشيات القومية (النازية) التي أسسها الملياردير كولومويسكي والتي أُدمجت فيما بعد في وزارة الداخلية وفي جهاز المخابرات.

كتبت سفيتلانا ساموديلوفا، في صحيفة «موسكوفسكي كومسوموليتس» اليومية: «وفقا للخبراء، يعمل 16 مختبرا بيولوجيا أميركيا على أراضي أوكرانيا. يتم تصنيف بعضها، حيث يمكن إنتاج فيروسات قاتلة، بالسرية. والخطير أن هذه المخابر الحيوية ليست في مناطق نائية، إنما بالقرب من المدن الكبيرة».

ويقول عالم الفيروسات العسكري إيغور نيكولين في حوار ببرنامج أبعاد روسية «هناك 4 منها في كييف، و3 في لفوف، ويوجد أيضا مخابر في أوديسا، وخاركوف، ودنيبروبيتروفسك... ولم تصادق أميركا قط على اتفاقية حظر استحداث الأسلحة البكتريولوجية والتكوسينية وإنتاجها وتكديسها، ولا على تدمير تلك الأسلحة. لقد قاموا ببساطة بإبعاد هذه المختبرات الخطرة عن أراضيهم.

وهي الآن تعمل كأنما في منطقة رمادية.. في هذه المختبرات، يختبر علماء الفيروسات العسكريون أحدث ما ينتجونه على مجموعات جينية محددة: على البشر والحيوانات والنباتات. وبالمناسبة، الصين محاطة أيضا بالمختبرات البيولوجية الأميركية».

ويضيف نيكولين، «على مدى السنوات العشر الماضية، تحولت أوكرانيا عمليا إلى (قنبلة بيولوجية) بالنسبة للبلدان المجاورة. لدى استخباراتنا معلومات تفيد بأن عينات من فيروس الجدري نُقلت سرا إلى مختبر خاركوف في حاويات خاصة. وقد انتشر خبر التقرير الذي أرسل إلى البنتاغون.

وفيه، تحدث علماء الأحياء الدقيقة الأميركيون عن نتائج مظفرة. فقد تمكنوا من تخليق بنية فريدة من جينوم فيروس الجدري، يمكن أن تتنكر في شكل فيروس كورونا. وقد قال رجل الأعمال الأميركي بيل غيتس أخيرا إن الوباء القادم سيكون الجدري، الذي يتسبب بوفيات تبلغ 90٪».

تستخدم أميركا تجاه خصومها المنافسين مقولة (بحجة جارك أخرب دارك) وهي الحجة التي استخدمتها في معظم حروبها السابقة في بقاع الأرض، والآن بعد أن أشعلت حربا ضروسا في شرق أوروبا بحجة الدفاع عن جارة روسيا الاتحادية، أو كرانيا، تنتقل إلى الشرق الأقصى لتستخدم جزيرة تايوان الصينية ضد فضائها الصيني الأوسع.

باعتبارها الجارة الواقعة في حب النموذج الأميركي خوفا من الجارة المتوحشة والشريرة كما يصفها إعلام الغرب، وقد تتسبب هذه الحكمة المجنونة في دمار تايوان والتضحية بها من أجل إشعال حروب استنزاف طويلة الأمد، كما في أوكرانيا، ومن أجل اختبار مدى قوة هؤلاء المنافسين العسكريين، وفرض عقوبات عليهم لضرب اقتصاداتهم، وفي جميع الأحوال تظل الصين مختلفة عن كل القوى التي واجهتها أميركا في حروب ساخنة أو باردة، اقتصادية أو عسكرية.

ففي ماذا تختلف الصين؟ ولماذا يتوقع المحللون فشل الولايات المتحدة في حربها الباردة على الصين باعتبارها تستخدم الاستراتيجية نفسها التي تبنتها ضد عدوها التقليدي المختلف (الاتحاد السوفياتي)؟.

أولا: وفق استراتيجية أميركا للحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي تبنت احتضان اقتصادات أخرى نامية مثل اقتصاد اليابان واقتصاد ألمانيا الناهضتين بعد الحرب العالمية الثانية، ورغم ما شكله هذان الاقتصادان من خطر تنافسي على اقتصاد الولايات المتحدة، إلا أن بعبع الاتحاد السوفياتي جعلها تتسامح معهما باعتبارهما قلاعا إقليمية مهمة في وجه الخطر الشيوعي.

وهذا ما فعلته أيضا عبر تعاونها الحذر مع النموذج الصيني الناهض بعد ذلك، الذي كانت تطلق عليها تحببا: «انتعاش الصين»، ورغم أن الصين يحكمها حزب شيوعي إلا أن درء الخطر المارق بخطر يمكن احتواؤه أوهمَ الولايات المتحدة بأن الصين أقرب إلى تبني النموذج الرأسمالي مع الوقت خصوصا بعد إصلاحات دينج في الجنوب وفي الضفاف المقابلة لتايوان.

لمؤلفَيه دانيال بورشتاين وأرنيه دي كيزا، يُذكر في كتاب (التنين الأكبر: الصين في القرن الواحد والعشرين) أنه «في النصف الثاني من القرن العشرين اضطر صناع السياسة الأميركيون للتعامل مع المنافسين والمزاحمين ممن يتصفون، إما بالقوة الاقتصادية (اليابان وألمانيا وغيرهما)، وإما بالقوة عسكريا وسياسيا (الاتحاد السوفياتي سابقا)، ولكن الصين هي أول قوة عظمى في القرن الواحد والعشرين سوف تحمل الصفتين، من حيث عناصر القوة بدرجة عالية إلى حد ما».

يضاف إلى هذا حاليا تغلغل الصين في أقاليم مختلفة من العالم حيث أصبحت الدول النامية تفضل الشراكات والاستثمارات الصينية على الغربية لأنها لا تبتزها بالشروط السياسية الضاغطة ولا ملفات حقوق الإنسان، فالصين لغتها التنمية واستفادة كل الشركاء دون أي هواجس تبشيرية ترافق هذه الشراكات.

وهذه المعطيات تجعل من الصعب على القوى الغربية أن تفرض عقوبات على الصين بالقدر الذي فرضته على روسيا لأن الصين جزء من شبكة اقتصادية عالمية تؤثر فيها وتتأثر بها.

وهو ما يحيل إلى، ثانيا: حيث إن الصين تاريخيا وعقائديا كانت دائما مشغولة بشأنها المحلي، وحتى ركائز اقتصادها في أغلبه (محلية) كما فعلت روسيا في السنوات الأخيرة تحسبا لأي نوع من العقوبات.

رغم انخراط الصين في العالم الرأسمالي وفي قوانين السوق العالمية، إلا أن عقيدتها الكنفوشية الراسخة تعمل كقاعدة أخلاقية ومعرفية تحت هذا الاندماج المحسوب، فهي معنية باقتصادها الداخلي ونظامها السياسي، وليست معنية بتوسيع إمبراطوريتها خارج الحدود، أو استعراض قوتها في أصقاع أخرى من العالم، وهذا ما يجعلها تعتبر هونغ كونغ وتايوان شأنا محليا يحدث داخل حدود الأمة، وما يجعل تايوان أمرا حساسا بالنسبة لها، من جانبَي الاقتصاد والأمن القومي

قبل صعود إسبانيا والبرتغال كقوى عسكرية تجوب البحار بقرن من الزمان، وقبل بروز أساطيل هولندا وبريطانيا بثلاثة قرون، كانت الصين تحت قيادة القائد العسكري البحري جينج تملك أقوى المهارات والتكنولوجيا البحرية لصناعة أساطيل تغزو العالم، لكنها ظلت تركز على إمبراطوريتها الآسيوية إخلاصا لثقافتها الكونفوشية العريقة التي ما زالت تميز حدودها بسور الصين الشاهد على هذه العقيدة.

وفي مواجهة هذا الخصم المراوغ لكل تحرشات أميركا به والمحبط لكل ذرائعها التقليدية في ضرب الخصم المنافس، لم تجد إلا تايوان، الجارة الحائرة بين امتدادها الصيني الطبيعي وبين ارتباطها السياسي بالنماذج الغربية، والتي في ظل ديمقراطيتها المنتسخة عن الغرب تشكلت فيها أوليجارشات اقتصادية حاكمة.

وهي وحدها من تستطيع الوصول إلى أعلى هرم السلطة ومفاصل الدولة، وهي شبيهة بالميليشيات التي لا تتردد في الاستعانة بقوى خارجية أو بالتسبب في حروب مدمرة إذا ما أحست يخطر العودة إلى الحض الصيني، ذريعة القوى الغربية الداعمة لهذا الانشقاق - كما في حرب أوكرانيا - الدفاع عن الديمقراطية.

ثمة ضخ إعلامي يدافع بقوة عن النظام العالمي ذي القطب الواحد بحجة الدفاع عن الديمقراطية، مع أن الديمقراطية في جوهرها تعني التعددية، لكن الدول التي تدير ديمقراطيتها بإعجاب داخل حدودها، تتحول إلى طغيان متوحش بمجرد أن تتهدد مصالحها وتخرج من حدودها، وجرائم الإبادة التي قامت بها هذه الإمبراطوريات الحاملة شعار الديمقراطية في بقاع شتى من العالم تشي بهذا التناقض الأخلاقي المريع.

وكما قلت في مرات سابقة، لا يعنيني من هذه الحرب سوى توخي الموضوعية، خصوصا حين يكون الصراع بين نظم أوتوقراطية لا ديمقراطية، ونظم ديمقراطية لا أخلاقية، ففي جميع الأحوال الحرب مؤثمة وستظل أفظع القذارات التي يقوم بها الإنسان فوق الأرض، ولا تَحَكُّم لنا بها، وكل ما نستطيع التحكم فيه عقولنا وضمائرنا التي من المفترض ألا نجعلها أدوات مطيعة لهذا التلاعب الخبيث الذي يستخف بعقولنا.

وإذا ما نظرنا للصورة العامة المحفزة للحروب وفق هذا الشكل، واعتبرنا العالم دولة واحدة يحكمها دكتاتور متمثل في الولايات المتحدة الأميركية (وهذا تصور ليس بعيدا عن الوجاهة)، واعتبرنا روسيا والصين هي المعارضة في هذه الدولة الكونية التي تطالب بالتعددية التي بالطبع يرفضها الدكتاتور، وكأي دكتاتور سيواجه هذه المعارضة بالتضييق عليها عبر العقوبات الاقتصادية، وإلهائها في حروب جانبية يشعلها، واستثمار المنشقين في تايوان أو الميليشيات الفاشية في أوكرانيا.

مع محاولة لعزل هذه المعارضة وتسليط ميديا نشطة يسيطر عليها الدكتاتور لتشويهها تماما وتمثيلها كشر مطلق يهدد الاستقرار، بينما حاشية الدكتاتور من النظم الأوروبية المطيعة تتبعه بعمى غنائي حفاظا على مصالحها، والغاية فقط من كل ذلك أن يستمر حكم الدكتاتور العالمي (القطب الواحد) مهما كان الثمن.