Atwasat

قصر الملح

محمد عقيلة العمامي الإثنين 23 يناير 2023, 02:09 مساء
محمد عقيلة العمامي

رحل عنا من باريس، الفنان الإسباني بابلو بيكاسو يوم 8/4/1973 بعد أن عاش 92 عامًا أفنى معظمها يبدع رسمًا ونحتًا، وحياة عجيبة. قبيل وفاته بقليل قال في معرض حديث له: «أعطني متحفًا أملأه إبداعًا».
سنة 1974 كُلفت دار مزادات شهيرة لجرد أعماله فقدرت الدار أن تلك المهمة تحتاج إلى خمسة أشهر؛ ولكنها لم تنجز عملها إلا بعد أربعة أعوام! فما خلفه كان 1855 منحوتة ولوحة، قدرت قيمتها بحوالي 200 مليون دولار أميركي. ثم كُلفت مُقيّمة أعمال فنية اسمها (دومينيك بوزو) بأن تختار 203 لوحات و1472 رسمًا و191 منحوتة، تُسلم للحكومة الفرنسية كضرائب مستحقة عن الإرث الذي تركه بيكاسو.

ثم اختُير مكان يليق بهذا الإرث الباذخ، فاختار وزير الدولة الفرنسي للشؤون الثقافية (هوتيل ساليه) الذي كان العام 1656 ملكًا لـ (أوبير دو فونتناي) جابي ضرائب (الملح) للملك لويس الرابع عشر، فتسمى المبنى بقصر الملح!

ومعذرة! لأنني لم أستطع إتمام حكايتي الفنية هذه من دون تذكيركم بشخصية (عبد الملح) الذي ظل يجمعه، من دون أن يرسمه أحد، ليكوم جبالًا في مكان الحديقة وأرض المبنى الذي شيد فوقها فندق عمر الخيام، بمدينة بنغازي! واستمر هذا العمل، إلى ما بعد عهد الاستعمار الإيطالي لبلادنا!

وعلى الرغم من انتقاد الناس لاختيار قصر الملح الباريسي هذا؛ فإن الشابة (بوزو) التي انتقت القصر، قالت: هل القرن العشرون هو الحقبة التي لا نستطيع أن نتعايش مع ماضيها؟ أليس من الأجدر أن تعرض أعمال الفنان بيكاسو، في أجواء تشبه المكان الذي كان يعمل فيه، ألم يمض حياته في قصر (غريمالدي) وقصر (فوفنارغ) اللذين كان يعيش ويعمل فيهما؟

ومعذرة مرة أخرى، لقد أحسست أن البشر يكرمون تاريخهم وقصور أجدادهم ويحافظون عليها، ويرممونها، ولا ينهبون الإيقونات التاريخية النادرة التي اختفت بقدرة قادر، من عدد من ميادين بلادنا ولا يعلم عنها أحد شيئًا! زمان أشيع أنها من مخلفات موسليني، ولم يتكلم أحد، والآن سمعت من يقول أن ما اختفى هو من أثريات مستمدة من مخلفات أركسيلاوس الذي جاء إلى قورينا سنة 660 قبل الميلاد يبحث عن نبات السلفيوم الشهير!

ومما زاد من حنقي أنني عرفت أنه قبل أن يخصص القصر كمعرض للوحات بيكاسو وأن هذا القصر كان قد أصبح سفارة للبندقية بعد وفاة صاحبه، ثم انتقلت ملكيته إلى عائلة ثرية، ليصبح مدرسة مركزية، وقبيل الحرب العالمية الثانية استثمر كمصنع لصب البرونز، وبعد الحرب أصبح مدرسة للهندسة، واحتاجت البلدية لتجديده وصيانته ثماني سنوات ليصبح متحفًا فرنسيًا للوحات بيكاسو الإسباني! فلقد انتبهت إلى أن قصر المنار هو الذي تنازل عنه الملك إدريس ليكون أول جامعة ليبية في البلاد، فلماذا لا يكون متحفًا يحفظ ما تبقى من تاريخنا؟ وإن كنا لا نريد أن نذكر الملك رحمه الله، نستطيع أن نسميه قصر ملح الحياة، باعتبار أن ساحة قصر الملك كانت ساحة جُمع فيها الملح وصدر إلى أيطاليا، وعاش أجدادنا منه، فبنغازي لم تكن أرضا زراعية، لقبيلة معينة ولذلك كانت "رباية الذايح"!
لقد افتتح متحف بيكاسو- الإسباني- بباريس يوم 28 سبتمبر 1985 وأصبح يستقبل ما بين 70 و80 ألف زائر شهريًا! وأصبح على الطلاب المتطلعين لدراسة فترة بيكاسو الزرقاء، أو الوردية أو التكعيبية، ودراسة فنون تحف منحوتاته أن ينتظروا ستة أشهر قبل أن يحين دورهم لزيارة مع دليل يريهم الأجواء التي حققها مصمم المتحف لتتوافق مع تحف بيكاسو الفنية.

لقد قالت ابنته (بالوما) بعدما افتتح المتحف، إنها عاشت حياتها محاطة بتلك الأعمال الفريدة وأنها تشعر في ذلك المتحف وكأنها رجعت إلى بيتها.