Atwasat

استقلال.. لن يتكرر (5-5) كلمات في الموسم الحادي والسبعين

سالم الكبتي الأربعاء 18 يناير 2023, 02:25 مساء
سالم الكبتي

ومع مضي الأيام بات يلاحظ حدوث التغييرات والتبدلات في إسناد المهام والمسؤولية لحكومات متعددة وإتخذ البعض من موضوعة الفساد التي طرأت وفاحت رائحتها من خلال بعض الأفراد المحسوبين على النظام والسلطة.. اتخذوه وسيلة للطعن أيضا في مشروع الاستقلال.. هناك فساد، كما يرددون.

فإذن الاستقلال هو الآخر فاسد برمته جملة وتفصيلا. وهكذا ظلت الأمور تتعقد وتسير باتجاه التصادم المستمر وضعفت أمام ذلك كل محاولات الإصلاح والقضاء على هذه الظواهر بدءا من مبادرات الملك نفسه التي فتحت الباب واسعا لرؤية تلك الثغرات التي تشوه الاستقلال على الدوام. كان الحلم بتحقيق دولة مثالية فاضلة صعبا للغاية. كان لابد أن تعتري الرحلة المعوقات من داخل البلاد نفسها ومن أفرادها.

حاولت الدولة كثيرا وبشتى الطرق احتواء الصدام قبل أن يقع بإنجاز المشاريع الجديدة وتحقيق المزيد من تكافؤ الفرص وتنمية الاقتصاد الحر وعدم التضييق على المواطنين في وسائل العيش وتشجيعهم على العمل والمبادرة على مستوى خاص أو عبر دمجهم بالاشتغال في مؤسسات الدولة المختلفة وفتحت في جانب آخر فرصا دون تمييز للإيفاد إلى الخارج للدراسة أو حضور الدورات وظل متاحا أمام الجميع سواء في المدن أوفي الدواخل.

ومثالا على ما أقول: كان العديد من الطلبة المتفوقين في المرحلة الثانوية في تلك المناطق ترد إليهم الرسائل والبلاغات عن اختيارهم للدراسة العليا وغيرها مثلما كانت تأتي وترد لكل الطلاب والمختارين في المدن الساحلية القريبة من موقع القرار. ومن أجل تأمين ذلك في المناطق البعيدة لجأت الدولة إلى إعلام من يهمه الأمر بواسطة لاسلكي مراكز البوليس.. المهم التبليغ والإفادة!

أتاحت الدولة براحا معقولا للرأي من خلال إصدار الصحف الخاصة وإنشاء جمعيات ومنظمات العمل الاجتماعي وخلقت أنشطة للشباب لجذب اهتمامهم إلى الداخل بمنأى عن الخطاب القوي القادم من الخارج. محاولات بذلت وإن لم تكن بشكل كاف لتعزيز الانتماء للبلاد. ورغم هذا لم ينل الاهتمام المطلوب لدى الكثيرين من أبناء الوطن وأضحى التباعد يزداد بين السلطة والمواطن مع الكثير من انعدام الثقة المتبادلة وظل المواطن يستعجل التغيير بكل ألوانه في الواقع. وكانت الدولة تتمهل وتسير وفق خطط وضعتها خاصة بعد ظهور البترول والحاجة إلى مداخيله.

كانت ترى أن الظروف غير مواتية للسير في عجل، وأن بناء دولة الاستقلال يحتاج إلى توطيد ومعاناة أخرى مع صبر يفوق درجة الحصول عليه في الأساس الذي افتكه الجيل الأول للاستقلال.

إن هذا الرفاه والرخاء الذي بدأ ينتشر وظل الليبيون يعاصرونه ويعيشونه في وطنهم وشاهدوا انعكاسهما على الأرض إلى مستوى شعر فيه الآخرون من ذوي الجوار بالحسد والتعجب والدهشة من هذا التطور الذي بدل معالم البلد الفقير بالأمس إلى حياة وواقع جديد لم يكونا في ذات اللحظة متماهيين والانتماء الحقيقي للاستقلال والدفاع عنه ورد كل محاولات الانتقاص منه في الداخل والخارج.

ظل المواطن متبرما معظم وقته يشكو الفراغ والقلق ويسب الحكومة ويلعن بلاده ويطالب بتغيير الأوضاع وبرزت هنا التشكيلات والتنظيمات الحزبية التي كان أغلبها منبهرا بتجارب المنطقة ولم يقدم حلا لمشاكل الداخل أو الفساد ومعالجته.

كانت العقول والأفكار تتماهى مع أحياء الدول البعيدة الملتهبة بالنضال والدعوة للقضاء على مظاهر التخلف والرجعية العميلة!

لقد فقد الانتماء بكل معانيه وظللنا جميعا ندور على أنفسنا ونبحث عن شخصيتنا ونتساءل عن الهوية المفقودة والكيان ومعانيه. وبرزت مفاهيم الأنانية الاتكالية والتسفيه والسخرية والطعن والكسل وصار يسمع على الدوام صوت يهمس أو يصيح بأن ليبيا (بلاد خاربة). وتقوى مع المدة والوقت التكالب على الوظائف والمناصب والأموال وهجرت الأرض والزراعة ونزح العديد من الريف إلى المدن وحقول البترول وتبدلت مع ذلك أمور مختلفة.

وحدث المزيد من التناقض الحاد بين كل الفئات واتفق الجميع على الشكوى من الفساد ونمت عقلية التحاسد والتباغض. وأذكر في هذا السياق أن الأستاذ الصديق فيصل فخري السنوسي حدثني في لقاء قديم بأنه التقى الملك إدريس لآخر مرة في مارس 1969.

كان الأستاذ فيصل يقيم في شقة متواضعة في بنغازي مع جدته شقيقة الملك نفيسة المهدي وزوجة الملك السابقة وأبنةعمه سكينة الشريف. كانتا تبلغان عمرا متقدما وكان الملك يعتاد زيارتهما كلما حل ببنغازي عند ذهابه إلى طرابلس أو عودته منها.

وكانتا تعيشان بمستوى عادي مثل كل المواطنين. وحدث في هذه الزيارة أن الملك استفسر من الأستاذ فيصل عن الأوضاع وأحوال الناس باعتباره شابا قارب على التخرج من الجامعة. صارحه بأنهم يكثرون من الشكوى ويمتعضون من الفساد المنتشر الذي حذر منه مرارا وقلة التكافؤ والعدالة في مستوى المعيشة.. وغيرها من أمورتعكس الواقع وكان الملك يستمع باهتمام وحزن أيضا ثم أشار بأسف بالغ إلى أن الاستقلال ناله الليبيون بعد تعب لكي يرتاحوا في وطنهم ولم يحافظوا عليه وأنهم عانوا كثيرا وأنه، من جهته، لم يقصر جهدا في توفير كل أسباب الراحة للشعب واختيار المسؤولين من بينه. لم يأت بأحد من الخارج وكانوا يقسمون أمامه بالإخلاص والضمير.

ثم تنهد وقال بأسى أكبر من غيره أن الليبيين جميعا ينقصهم شيء واحد: الانتماء!

جملة قصيرة أدرك بها الملك المأساة وعرف بها عمق المسألة وجرحها الغائر. جملة لخصت الواقع الراهن ولخصت أيضا تجربة موغلة في القدم خاضها الملك وزملاؤه مع القضية الوطنية وصولا إلى الاستقلال. ثم مع حدوث الهزات التي نالت ذلك الاستقلال تباعا في السنوات الأخيرة من إعلانه ظل الملك أيضا يشعر بأن دوام الحال من المحال والذي يتوقعه الناس أو يطمحون إليه ويسيرون نحوه سيقع.

كان الملك يشعر بأنه وجيله صارا من أطياف الماضي والتاريخ. هناك أبواب ونوافذ تقرأ وأصداؤها ستتردد لدينا دون شك. كان الملك كذلك يعرف حتمية التغيير القادم بأي شكل من الأشكال.
... وقد وقع!

وقع ذات صباح كانت فيه الظروف الدولية والمحلية مواتية ومؤيدة لذلك أيضا واتجه التغيير العنيف منذ البداية إلى التصادم مباشرة مع الاستقلال والاشتباك معه ووصفه بالخيانة والفساد والعمالة. وأنه مجرد عهد بائد ونقل كل رجاله وراء القضبان وشرع في محاكمتهم وإذلالهم وطالت أقسى العقوبات الملك نفسه حيث نال حكما بالإعدام رميا بالرصاص.

وضع عهد الاستقلال في القفص ولم يجد من يدافع عنه وظل عنوانا طيلة العقود الأربعة لكل مظاهر التخلف والجهل. وأسهم التغييرفي تغيير العقول ونظرتها إلى الاستقلال وظلت المصطلحات تتردد بأن ليبيا لم تكن مستقلة منذ عهد الأتراك وأن الاستقلال المعاصر مجرد استقلال مزيف وغير حقيقي بالمرة.

لقد علق الاستقلال على المشنقة وصار عاريا تأكله الغربان وانهارت العديد من الجسور وتدفقت تحتها المياه العكرة ولم يعد ثمة معنى لهذا الاستقلال على ضوء ما يحدث والصادر من الخطاب الجديد المبني على الكراهية والحقد. وفقدت الأجيال المزيد من الانتماء وظلت عاجزة عن تحقيقه إلى الآن.

ولم تتح الفرصة كاملة أمام معاصري فترة الاستقلال وبُناته بالكتابة عنه بحرية وابتعد أغلبهم عن ذلك نتيجة لسطوة الخوف والترهيب. صار الاستقلال حدثا عابرا مر بتاريخ ليبيا طارئا.. لكنه يظل في مجمله استقلالا لن يتكرر.. ولن تفهمه الأجيال القادمة أو تقف على حقائقه المريرة!