إن الدخول في حالة العنف أياً كان منشأها أيديولوجياً أو عرقياً أو سياسياً، هي حالة ناتجة عن تراكم عدة عوامل ومسببات لفترات وأزمنة طويلة، بحيث يصبح العنف هو سلوك الأفراد في مختلف الأطوار الحياتية، ويبدو أن المناخ الذي تغيب عنه الحرية الاجتماعية والتنوير الثقافي والعدالة التنموية والحرية السياسية، يؤثر بشكل مباشر في تغيير الهوية المجتمعية المسالمة والسيرورة الإنسانية الهادئة إلى حالة تلقي الأفكار العنيفة، واستخدامها كحالة تعبير سلوكي لثقافة المحيط الجمعي وعوامل التنشئة التي تنتج هذا التشوه الإنساني.
ولعل أخطر أنواع التشظي المجتمعي هو الذي يكون ناتجاً عن حالة العنف الديني أو العنف العرقي، لأن الأفكار التي تتبنى هذا السلوك الفكري تقوم بإقصاء الآخر إما في خانة التكفير والطائفية أو خانة التخندق لصالح الفئة العرقية أو القبلية أو المناطقية، كما أن الأصولية الدينية وتفسير النص الديني لصالح الأهواء السياسية، كانت عبر التاريخ إحدى الركائز التي تغذي حالة الصراع الأهلي، وتكون أحد الأسباب الرئيسية في هدم نفوذ الدولة وأركان سلطتها.
فقد كُفِّر عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم من قبل الفئة الخارجة وجرى اغتيالهم تحت عنوان الفتوة الدينية! وهم من السادة الخلفاء الراشدين والصحابة الكرام، وهذا يعطينا مدى خطورة تأصل الفكرة الدينية عندما تتحول من طريقها السليم والصائب في نشر الفضيلة والدعوة لإصلاح الفرد والمجتمع والتربية الروحية، إلى مراحل أخرى في الطور السياسي والصراع والنزاع على السلطة.
فيكون مردودها فتاكاً على المجتمع بحيث يخدم استمرار حالة العنف المجتمعي وعلى الحياة السياسية فيطيل من عمر تمدد حالة الاستبداد السياسي وبقائه وتأخر وتعطيل البناء الديمقراطي الحر.
ولعل من أهم العوامل التصدي الفكري لظاهرة التطرف، هو ظهور أنماط ثقافية جديدة موازية لهذا الموروث العنيف؛ بحيث يكون العقل الجمعي للمجتمع محصناً من الانحدار نحو هذه المزالق، وهذا لا يتأتى سوى عبر توطين الحرية السياسية وخلق قاعدة ديمقراطية عادلة للحياة السياسية والاجتماعية، فحالة العنف الديني هي حالة لا يجب اختزالها فقط في أفكار العصبيات الفكرية الأصولية المتطرفة؛ بل هي تتغذى وتنمو وتجد المتلقي عندما يمر المجتمع بحالة من أنماط الحكم العنيفة المستبدة، التي تؤثر على البنية العقلية للإنسان والبنية النفسية والسلوكية.
فكما يقول ابن خلدون إن الشعوب تتخلق بأخلاق أمرائها، فعندما يغيب المجال الطبيعي لتفاعل الأفكار السياسية السلمية البناءة مع السلطة القائمة وتغييب الرأي الحر تكون بذلك قد خلقت البيئة المناسبة التي تتغذى عليها الأفكار العنيفة والمتطرفة.
كما أن غياب دور الدولة في تحصين أبنائها بتوفير الحياة النموذجية لمواطنيها، وتوفير فرص العمل والقضاء على البطالة وتطبيق العدالة القضائية وتوطين الحياة الاقتصادية الإنتاجية يؤدي إلى نمو هذه الظاهرة، فعقل الإنسان المنتج يختلف تماماً في تكوينه عن العقل الاستهلاكي المتلقي، والاهتمام بتوفير نظم تعليمية متطورة وحداثية، يخلق شخصية طالب العلم المفكر القائد القوي المبدع، ولا تقوم على نظام تعليمي قديم مبني على التلقي دون النقد والتحليل والمشاركة، فالتنشئة التعليمية مهمة جداً في تكوين عقل المواطن وشخصيته وقدراته.
كذلك من مسؤوليات الدولة إنشاء الحياة الثقافية الحرة، وإعطاء المساحة لتشكيل الذائقة الفنية بمستوى رفيع غير انحلالي أو سطحي مخل، فالفنون والموسيقى والمسرح هي مدرسة الحضارة الأولى للإنسان عبر التاريخ.
أيضاً غياب الهوية الوطنية الجامعة وغياب مفهوم المواطنة، يخلق مواطنين برسم القانون، ولكنهم فاقدون لهوية الانتماء، وهذا يخلق مساحة بين سلطات الدولة القائمة وبين المجتمع الذي تقوم عليه السلطة، بحيث تستغل الأمراض الفتاكة حالة الفراغ هذه في خلق دوائر أخرى غير حميدة، كما أن غياب الخطاب الديني المحلي المعتدل الذي يدخل ضمن رؤية الدولة ومخزون وإرث الهوية الدينية لمجتمعها، يكون أحد مسببات الفراغ الذي قد يملؤه خطاب ديني من خارج حدود الوطن.
ولعل الأصل في مجتمعنا الليبي هو حالة الاعتدال والسلم والبناء والتعايش، فقد كانت مدن الساحل الليبي تعج بالمختلفات المتعايشة ضمن إطار هوية واحدة وثقافة متداخلة مشتركة، فالأمة الليبية من الأمم ذات التعددية الثقافية والعرقية فهي منتوج لظاهرة فريدة من الاشتباك الجيوبوليتيكي المتعدد.
فحالة العنف بشكل عام التي شوهت الشخصية الليبية هي حالة طارئة قابلة للزوال لأنها غير متأصلة في الداخل الليبي، خاصة إذا ما اتجه العقل الليبي لخلق حالة من الشراكة الثقافية والفكرية والاقتصادية مع محيطه المائي المتوسطي والقفز من عربة الصراع القائم، فلا يمكن أن نمضي نحو المستقبل بعيونٍ أتعبها الماضي، يجب أن نستوعب العالم الذي صنعته الحداثة وعالم ما بعد العولمة والنظم الاقتصادية العابرة للقارات وللأعراق وللأديان.
مما أنتج مجتمعات جديدة متعايشة رغم اختلاف ألوانها ودياناتها ومعتقداتها، وصنعت نظماً سياسية وقانونية تستوعب الجميع في إطار الحياة السياسية والاقتصادية الحرة بقدر ما قاله مونتسكيو بأن الحرية هي الحق في أن تعمل ما يبيحه القانون.
تعليقات