Atwasat

السير عكس دَرَج متحرك

سالم العوكلي الثلاثاء 10 يناير 2023, 03:16 مساء
سالم العوكلي

استطرادا لمقالة سابقة «البطولة الحلال» وخروجا بأسئلتها عن أضواء كأس العالم الأخيرة، صدف أني كنت في الأوقات الخالية من المباريات أعيد قراءة كتاب «الحب والجنس: عند السلفية والإمبريالية» لمؤلفه محمد كمال اللبواني، الصادر عام 1994 عن دار رياض الريس للنشر.

مبدئيا المعنيّ بالسلفية هنا ليست حركة دينية معينة ولكنه توجه ثقافي عام يعاند متطلبات التطور البشري التحرري عبر العودة إلى ما يسميه هذا التيار الشامل الأصول أو التقاليد أو التراث.. إلخ.

الحب والجنس مفردتان تثيران التوتر بشكل كبير في مجتمعات الكبت، مثلما تثيران فزع كل الرقابات الاجتماعية، سواء أكانت ممأسسة سياسيا، أو سائبة اجتماعيا، أو متربصة فتاويًا، وكثيرا ما نشهد ردات فعل متشنجة حين التطرق لهذين المفردتين حتى في مجازات الفن والأدب، أو من خلال الصورة بجميع تجلياتها الدرامية، ويعكس ما دار من لغط صحب المونديال الأخير مدى هذا التصادم القيمي بين مستويات مختلفة من الفهم البشري.

حيث تقام البطولة في حيز زماني مقتضب وفي مكان محدود يصله حشد كبير من جمهور كروي يشكل معظمه شبان في عمر المرح الغنائي المتمرد بطبيعته.

وفي دولة تحاكي بكيانها المادي أرقى ما وصلت إليه الدول المتحضرة، يتجسد واضحا هذا الصدام القيمي والأخلاقي، فتبرز خطابات متشنجة تحاول حشر هذا الجمهور المتعدد العقائد والأمزجة داخل دائرة التقاليد المحلية، وقد دار مثل هذا اللغط إبان اقتراح بطولة للتنس الأرضي في الدوحة.

عندما تدخلت التقاليد المحلية لفرض لباس محتشم على اللاعبات في بطولة تحتاج كرياضة أرستقراطية للحد الأدنى من القماش الذي لا يعرقل حركة ومرونة اللاعبة، ورفض الاتحاد الدولي للتنس فكرة أن ترتدي اللاعبات قمصانًا بأكمام وبناطيل ساترة، وفي النهاية تنازلت اللجنة المنظمة لشروط اللعبة، لأنه في عالم يتفاعل بقوة داخل هذه الملتقيات الدولية لا يوجد سوى خيارين، إما أن تنعزل تمامًا أو تتنازل.

وحقيقة من تثيره جنسيا لاعبة تنس أو جمباز أو راقصة باليه أو لوحة رسم أو تمثال حجري عليه أن يراجع طبيبه النفسي فورًا.

رغم ما في الكتاب السابق ذكره من سياقات منفعلة أحيانا أكثر مما يتطلب التدبر الهادي لمسألة معقدة مثل الحب والجنس، إلا أنه يزخر بتحليل مهم لجذور هذا التوتر المصابة به أمة يقول عنها اللبواني إن «أكثر ما يوحدها، هو في الواقع، عُقَدُها الجنسية» مؤكدا أن أي محاولة للبحث في هذه العُقد التاريخية يتطلب تضافر علوم عديدة، كعلم النفس، وعلم النفس الاجتماعي، والاقتصاد والسياسة وغيرها.

فيضع المؤلف الإمبريالية والسلفية على وجهي عملة واحدة في تعاملهما مع هذه الكيمياء الوجودية التي تحولت إلى وسواس قهري، فمثلما تقوم الإمبريالية بخلق نوع من الكبت الموضوعي، توظف السلفية الكبت الذاتي من أجل تسويق خطابها، وفي المحصلة «كلاهما قائم على الكبت الذاتي للجنس ويقوم بتوليده، كلاهما يقوم على تعذيب الإنسان وجعل الإنسان وسيلة لغايات أدنى منه>>.

وبين هذين الوجهين المعبرين عن هوس متشابه بالتوظيف، يركز المؤلف على العامل الاقتصادي وطبيعة علاقات الإنتاج التي تهيء الأرضية لهذه الثقافة التي تبتذل الجوهر الوجودي للإنسان، وتوظف من جانب آخر الدين والعقائد والتقاليد لخدمة هذه البنى الاقتصادية، سواء أكانت ريعية في المجتمعات التقليدية، أو تعلقت بالسوق والدعاية والاستهلاك في المجتمعات الحديثة.

وما نراه الآن من هوس بإنتاج الفتاوى اللاهثة خلف هذا الوسواس، تعكس جوهر المسألة التي يتطرق إليها كتاب اللبواني، كما أن وجود مؤسستي رقابة، سياسية ودينية تُقيّمان الفن والأدب بحجة الحفاظ على التقاليد الاجتماعية يعكس مدى الفوضى التي تنثرها هذه العُقد، ولعل ما تعرض له كتاب «شمس على نوافذ مغلقة» من هجمة توحدت فيها أطراف ليبية هي في الواقع تتحارب على الأرض، يعكس مدى النفاق الذي تكرسه طقوس تطهر جماعي في مجتمعات تحتمي بأشواكها كلما أحست بتهديد.

في هذا السياق الفصامي المتوتر لا يني الكتاب يطرح أسئلة موصولة بفتيل إجابتها: «كيف سنكون بشرا عقلانيين إذا استمررنا بالانغلاق وبالادعاء بأن حلالنا وحرامنا هو الحلال والحرام المطلق الخالد الصالح لكل زمان ومكان، وما سيفيد إصرارنا إذا كنا نحن أنفسنا قد تخلينا عنه في الواقع؟..

ومتى كان الإصرار بديلا عن الإقناع؟.. كيف نحل الإشكال الهائل بين الانتماء إلى الهوية وبالتالي الاغتراب عن العصر، أو بين الانتماء إلى العصر وبالتالي الافتراق عن الهوية والأصالة ؟.. كيف يتعامل ابن اليوم الذي يتعامل مع العصر الحديث مع تراثه الموروث، وكيف نتجاوز ذلك التناقض الرهيب بين الذي نفكر فيه ونعلنه، وبين الذي نسلكه ونحلم به؟.. كيف نتجاوز الكذب الذي أصبح مرادفا لهويتنا القومية؟».

وهو إذ يؤكد على أن هذه الأسئلة تطرح نفسها في سياق مسألة الجنس التي يعتبرها «المسألة رقم واحد» لا تنأى، في الواقع، لغته المنفعلة أحيانا عن إثارة أسئلة مهمة يحاول تفكيكها والإجابة عنها في فصول أخرى تبدو أكثر هدوءا وأقل غضبًا.

ويظهر هذا الانفعال الحاد الذي لا يفسد للمعقول كثيرًا من القضية في رصده الفصام الشائع بين تمتع الجسد برفاه التقدم والتكنولوجيا ورهابه في الوقت نفسه مما أفرزته هذه الحضارة من سلوك يتمخض عن هذا الرفاه نفسه، أو كمن يسير عكس دَرَج متحرك، وهو الإشكال الذي تطرقت له في المقالة السابقة عن هذا المزيج الغريب بين تطور مادي وتكنولوجي هائل يجري فيه المونديال، وخطاب إعلامي ينتكس نحو ماضٍ بعيد يسمى من باب التجميل تقاليدَ أو أصالة، ما جعل المحلل أبوتريكة مثلا يقول بصيغة ضمير الجماعة المتكلم: لن نضحي بقيمنا وتقاليدنا من أجل إقامة بطولة لكأس العالم.

يقر اللبواني في سياق شرحه لـ «قضية أساسية» كما يصفها: «إن من يقبل بالتغيير التحتي، ومن يتبنى طريقة الغرب في تنظيم الاقتصاد والدولة والمجتمع وشكل تخطيط المدن والسكن والاستهلاك وبرامج التعليم، من يقبل علاقات إنتاجهم، عليه أن يساير ثقافتهم ويقبلها في مستوى القيم والعادات وأنماط السلوك والفنون والأزياء وما إلى ذلك.. لا مجال أبدًا للحديث عن ثبات ثقافي مع تغير البناء التحتي، لأن ذلك ضرب من الوهم، والعمل من أجله جهاد مستحيل...».

بالطبع أتحفظ على هذه الإقرارات الجزمية وكل ما اعتراها من مفردات غير دقيقة مثل «عليه أن يساير» أو سياق جزمي لا يعتريه شك مثل «لا مجال أبدًا»، إضافة إلى ما لاحظته من قصور الأسلوب أحيانا عن حمل أفكار الكاتب التي لا تنقص هذه الشوائب من أهمية طرحها بجرأة، كما لا تلغي أنها أثيرت مرارا وبأشكال أخرى لدى متفكرين آخرين ربطهم البعض بفكر التنوير العربي.

والمؤلف أيضا مثلي تربى في هذه الثقافة المتجذرة والفصامية، لكن حسنة الحس النقدي الذاتي أنها تعي مواضع الوجع، وتضع علامة استفهام أو تعجب خلف ما نعتقد أنه حقيقة، أو كوغيتو فرضه باراديم معرفي ما عاد يعمل في الحياة الفردية ولا الجمعية.
كتب أحدهم منشورًا يهاجم بضعة سطور عادية في جزء من رواية ضمنت في كتاب «شمس على نوافد مغلقة» معتبرا أن هذه السطور الآثمة سببها التأثر بالعلمانية والثقافة الغربية وما تدعو له من انحلال ..إلخ.

وعلقتُ فقط برابط لكتاب الشيخ الإمام الحافظ جلال الدين السيوطي «نواضر الأيك ....» وهو عبارة عن ملخص لكتاب «الوشاح في فوائد النكاح».

يدور موضوعه حول الجنس والأوضاع الجنسية. ولم يجد المؤلف (الإمام الحافظ) حرجًا في تسمية الأشياء بأسمائها، فهو صريح في استخدام اللفظ الدال على أعضاء الجهاز الجنسي للذكر والأنثى المستخدم في الكلام العام، كما أنه صريح بتلفظ أسماء العملية الجنسية ووصفها وصفًا كاملًا ورغم أن عمر الكتاب يتجاوز أكثر من 500 سنة إلا أنه يتكلم عن الرجال والنساء بطريقة متكافئة ويصوّر المتعة الجنسية على أنها حاجة متبادلة بين الطرفين وليس من طرف على حساب آخر.

وتوجد نسخة مخطوطة لكتاب «نواضر الأيك ..» بمركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية (تحت رقم: 3068- فب) إضافة لهذا الكتاب للإمام السيوطي أكثر من عشرة من المؤلفات حول الجنس، منها الإفصاح في أسماء النكاح، وضوء الصباح في لغات النكاح، ونزهة العمر في التفصيل بين البيض والسود والسمر، شقائق الأترج في رقائق الغنج، رشف الزلال من السحر الحلال. ولم يرد صاحب المنشور على تعليقي سوى بسلسلة طويلة من علامات الاستفهام والتعجب.

أما الحديث عن التراث العربي الإسلامي فيشكل مكتبة كاملة، وهي كتب صدرت قبل العولمة والعلمانية والتقنيات المتهمة باستهداف هذه المجتمعات الطهرانية البريئة، والمفارق أن الطهرانية صيغة جوهرية للمسيحية التي لم يكن نبيها نتاج عملية جنسية ولم يمارس الجنس، بعكس الإسلام ونبيه الذي أباح قنوات عديدة لهذه الطاقة الكونية الجامحة؛ بل ربط الإيمان بها وفق قواعدها المنظمة.

لكن السلفية التي ابتكرت شرطة خاصة لملاحقة هذه الغرائز تربط كل سياق جنسي بالانحلال الوارد من الغرب (العلماني)، وكأننا نتكاثر بالانقسام، بينما هو الهوية الحقيقية لكل ما ينبض بالحياة في هذا الكوكب، من علاقة قطرة ماء بحبة تراب مرورا بالنباتات والحيوانات وصولا إلى الإنسان، ومن هذا الإيقاع الجنسي الكوني الذي يعني في جوهره الوجود نبعت فكرة كتابي «بنات الغابة»، الذي هدف إلى نقل الحب وممارسته من خانة المدنس إلى خانة المقدس.