Atwasat

معزوفات وجدانية

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 08 يناير 2023, 03:59 مساء
عمر أبو القاسم الككلي

ثمة عدة كتب يعود فيها مؤلفوها إلى طفولتهم وصباهم وبدايات شبابهم. لذا فهي تشكل جزءاً من سيرهم الذاتية، سواء كتبوا سيرهم الذاتية كاملة أم لم يكتبوها. ويكون المكان في هذه الاستعادات ميداناً مؤطراً لجريان الأحداث.
وسأشير هنا إلى مثلين:
كتاب في. إس. نايبول* «شارع ميغيل» Street V. S. Naipaul, Miguel
وكتاب نجيب محفوظ «حكايات حارتنا».

يعود نايبول إلى الشارع الذي ولد ونشأ وترعرع فيه بمدينة بورت أوف سبين بالترينيداد أند توباغو، إحدى دول جزر الكاريبي. لكنه لا يتحدث في هذا الكتاب عن أترابه وإنما عن شخصيات رجال ناضجين عمراً غريبي الأطوار مزاجياً (كي لا نقول عقلياً).

ويفعل نجيب محفوظ الشيء ذاته في حكايات حارته، فهو يتحدث عن رجال ونساء أكبر منه.

محمد عبدالوارث** في كتابه «مقامات زمن العنبر: متوالية قصصية»، يفعل شيئاً مختلفاً عن هذين الكاتبين في الكتابين المذكورين. فهو يتحدث عن أترابه.

لكنني أريد أن أنطلق من العنوان. يصنف المؤلف كتابه، أو «يُجنِّسه» على أنه «متوالية قصصية»، أي أنها قصص متتابعة متسلسلة. وهذا يجعلها أقرب إلى الرواية. ولنلاحظ أن «شارع ميغيل» و«حكايات حارتنا» يصنفان أحياناً على أنهما رواية، باعتبار وحدة المكان وتفرد راوٍ واحد (هنا هو الكاتب) بمقاليد السرد.

في العنوان «مقامات زمن العنبر» تحيلنا لفظة مقامات إلى ثلاثة معان: 1- المعنى الموسيقي. 2- المعنى الاجتماعي الذي يعني المستويات الاجتماعية. 3- المعنى الصوفي، حيث يصعد السالك في مقامات متراتبة. على حين يحيل العنبر إلى العطور كما يحيل إلى الحيتان والبحر باعتبار العنبر مادة تقذف بها الحيتان من جوفها. ولذا يمكن قراءة العنوان على أنه معزوفات وجدانية (تشمل المعنيين الموسيقي والصوفي) تسترجع ماضياً عطراً.

تبدأ المقامات بنص عنوانه «الجيهة!» بمعنى الحي السكني، يرسم فيه حدود هذا الحي.

«صوت أذان المغرب يشق السكون.. أنظر عبر زجاج الشباك إلى الشريط الحديدي اللامع لقطار أبي قير، الذي يغادر محطة الحضرة البحرية الواقعة بنهاية الشارع هادرا، أرى البيوت المتاخمة للسكة الحديدية تنتهي إلى مبنى كلاسيكي متوسط الارتفاع كُتِب أعلى جدرانه بخط واضح (مصانع بونتريمولي للموبيليا)» ص7.

وفي آخر نص في الكتاب «صفير الزمن» تسجيل مغادرة الإسكندرية (لفترة موقتة) إلى القاهرة. حيث يركز «على قبة السماء بكل ما يمر بها من سحب وحرارة شمس ورياح، وأظل قابعاً لصيق أمي بجانب النافذة، أستعيد هذا الشريط السينمائي الذي صوره خيالي، وسجله عقلي، أمي بين الحين والحين تمد يدها السمراء اللطيفة بقطعة من الخبز وضعت فيها شيئاً من الجبن أو الفول [...] تظل تنصحني بوصاياها عن السلوك المؤدب [...] وأنا مشغول بمتابعة البيوت والحقول والأبقار والفلاحين المنهمكين في الزراعة» ص82.

* في. إس. نايبول له عدة روايات وكتب أخرى يعتبر مواطناً بريطانياً منذ سنة 1952 وتحصل على جائزة نوبل سنة 2001. كتابه المشار إليه صدر سنة 1959.
** محمد عبدالوارث. مقامات زمن العنبر: متوالية قصصية. دار ديوان العرب للنشر والتوزيع. 2022. بورسعيد.