Atwasat

ليبيا الدولة وما دونها.. «قراءة في مسارات التحديث»

إبراهيم حميدان الجمعة 06 يناير 2023, 01:00 صباحا
إبراهيم حميدان

كتاب «ليبيا الدولة وما دونها: قراءة في مسارات التحديث»، من تأليف الباحث التونسي خليفة علي الحداد، قد صدر العام 2022 عن دار الرواد في طرابلس مع مركز ليبيا المستقبل للإعلام والثقافة.

والكتاب كما يقول الدكتور حسن الأشلم في تقديمه له: «وإن بدا موجزا ومختصرا، لكنه جاء مركزا وموفقا في مقاربته لزوايا مهمة في تحولات الدولة الليبية الحديثة، معرجا على نقطة جوهرية مهمة، ألا وهي التعليم، بوصفها المرآة الصقيلة التي تعكس حقيقة التحديث في بعديها السياسي والاجتماعي» (ص 3).

يتناول الكتاب، بالتحليل والنقد مسيرة تحديث الدولة والمجتمع في ليبيا، منذ تاريخ إعلان الدولة والوطنية وإصدار دستور 1951 إلى حين قيام ثورة فبراير2011، ويعرض أبرز مشاريع التحديث التي شهدتها البلاد، على امتداد ستة عقود (إصدار تشريعات، بناء المؤسسات، نشر التعليم، رفع مستوى المعيشة،...) ويقيّم مدى جديتها ومقادير انعكاسها على بُنى المجتمع والسلطة والنخب السياسية ومدى فلاحها في إدخال تغييرات على السلوك الاجتماعي والتمثلات الثقافية الجمعية العميقة (ص 9).

إن عملية تتبع السلوك السياسي للحكم الملكي حتى العام 1969، ثم الحكم الجماهيري حتى سنة 2011، تمنح مادة خصبة لرصد الهوة بين الخطاب السياسي والتشريعي من جهة، والممارسة السياسية من جهة ثانية، كما يقول المؤلف في مقدمة الكتاب، مضيفا: «ففي حين كانت الشعارات المنحازة للتجديد والتحديث والقطيعة مكثفة الحضور في الخطاب السياسي الرسمي، ظلت الممارسة نكوصية ومعلية لروابط القبيلة والجهة والزبونية ووشائج ما قبل الدولة الحديثة» (ص 12).

لقد ساعد ظهور النفط في ليبيا، ثم البدء في تصديره منذ مطلع الستينيات في إحداث نقلة تحديثية مادية تمظهرت في تحسن مستوى المعيشة وانتشار المدارس والجامعات وزيادة التردد على المصحات الحديثة، وبالتالي تحسن الأوضاع الصحية لليبيين، هذه المظاهر وغيرها عكست تحولا باتجاه تحديث الدولة والمجتمع، «إلا أن ضعف المؤسسات التشريعية والمدنية، والرقابية ثم تفكيكها لاحقا، وسيطرة السلوك الريعي عند التعاطي مع الطفرة الاقتصادية، وتجذر البنى التقليدية والذهنية الثقافية التقليدية، حولها إلى عائق آخر أكثر تركيبا وتعقيدا، حال دون المضي في تحديث المجتمع، وكرس الغنائمية، والزعاماتية، وشراء ولاء المجتمعات المحلية والمجتمع الدولي» (ص 12).

لقد أفضى هذا كله إلى انهيار المنظومة الأمنية أواخر 2011، وهي النتيجة المنطقية لخيارات النخب الحاكمة خلال ستين عاما، التي عملت على تقديم مصالحها الآنية، وتخلت عن القيام بمهمتها الأساسية في تأسيس دولة المؤسسات، وإحداث التغييرات الضرورية العميقة في البنى الاجتماعية والثقافية التقليدية والاتفاق على مشروع وطني تراكمي بعيد المدى (ص13).

في الفصل الأول الذي حمل عنوان «دستور 1951 المعدل سنة 1963مرجعية التأسيس والتحديث»، يرصد الباحث بداية تأسيس الدولة الليبية مع إصدار الدستور الليبي في 7 أكتوبر من قِبل الجمعية الوطنية الليبية، ذلك الدستور الذي نص على أن ليبيا «دولة مستقلة ذات سيادة»، كما نص على إقامة نظام اتحادي يضم الأقاليم الثلاثة (برقة، طرابلس، فزان)، تحت مسمى «المملكة الليبية المتحدة». ومن ثم الإعلان رسميا عن استقلال البلاد في 21 من ديسمبر 1951.

ويتطرق الباحث إلى مطالب التحديث السياسي والاجتماعي كما نص عليها دستور 1951، حيث نصت الديباجة على: «تكوين دولة ديمقراطية ذات سيادة تؤمن الوحدة القومية وتصون الطمأنينة الداخلية، وتهيئ وسائل الدفاع المشتركة وتكفل إقامة العدالة وتضمن مبادئ الحرية والمساواة والإخاء وترعى الرقي الاقتصادي والاجتماعي والخير العام» (ص 28).

واستأثرت النصوص الخاصة بتنظيم السلطات وأدوارها وحدودها بأكثر من نصف فصول دستور المملكة الليبية المتحدة، حيث أفردت أبوابا لكل من السلطة التنفيذية، والسلطة التشريعية، والسلطة القضائية. كما حظيت حقوق الإنسان وآليات تحقيقها وحمايتها بفصول عدة أفردت لها ضمن دستور المملكة الليبية المتحدة لسنة 1951 المعدل سنة 1963.

يمكن القول إن دخول ليبيا مرحلة الحكم الدستوري، يمثل من حيث المبدأ، تأسيسا لنمط حديث من التنظيم السياسي والاجتماعي يتجاوز المرجعيات التقليدية وروابط ما قبل الدولة، التي ظلت المنظومة الاجتماعية قائمة عليها، بما يجاري أهم شروط دخول مرحلة التحديث السياسي، من بينها فصل السلطات، وقيام المؤسسات الحديثة، من برلمان وحكومة مركزية وأجهزة أمنية وعسكرية نظامية، ومساواة المواطنين أمام القانون وتنظيم العلاقات التعاقدية بين الدولة والمجتمع، وداخل المجتمع، وفق مبدأ المواطنة (ص 31).

لكن التحديث السياسي والاجتماعي لم يتحقق، وظلت مخرجات الصندوق انعكاسا لميزان القوى، (القبلي والاجتماعي والمالي)، وظلت، معها معظم المناصب الحكومية والوظائف العليا للدولة من نصيب القبائل والعائلات النافذة، مع استثناءات قليلة لا تلغي التوجه العام في هذا الشأن. وأضافت الثروة الريعية، منذ بدء تسويق النفط، وتدشين مشاريع إنمائية بتكاليف عالية، عقبات جديدة أمام التحديث السياسي باستشراء الغنائمية والإثراء غير المشروع ونهب المال العام عن طريق المناصب والنسب وصلات القربى والمحسوبية ودوائر النفوذ.

الفصل الثاني يخصصه المؤلف لسياقات التحديث السياسي والاجتماعي من العام 1969 وحتى 2011، ويتناول تداعيات انقلاب سبتمبر 1969 على التحديثين السياسي والاجتماعي، ويتتبع الإجراءات التي اتخذتها النخبة العسكرية منذ وصولها إلى السلطة، حيث قامت بإلغاء الدستور وجميع مخرجاته السياسية والمؤسساتية، من برلمان وحكومة وصحافة تعددية، وأصدر مجلس قيادة الثورة الإعلان الدستوري في ديسمبر 1969 الذي تميز بتركيز السلطة التنفيذية والتشريعية في أيدي مجلس قيادة الثورة المكون من 12 ضابطا، وتأميم الدولة لصالح هذا المجلس، وبعد ثلاث سنوات من الانقلاب العسكري على الحكم الملكي أصدر رئيس مجلس قيادة الثورة معمر القذافي قرار تجريم الحزبية.

ويأتي هذا القانون في سياق عام من التراجعات عن شكليات التحديث النسبية التي شهدتها ليبيا منذ الاستقلال والنكوص عن أي مظهر من مظاهر التعددية الثقافية والاجتماعية والسياسية، حيث حصر القانون المشار إليه مجال المشاركة العامة في العمل السياسي في «الاتحاد الاشتراكي العربي» الذي صار التنظيم السياسي الوحيد في الجمهورية العربية الليبية. أعقبت صدور قانون تجريم الحزبية حملات قمع متتالية ضد كل من يشك في علاقته بأي فكر أو تنظيم خارج السياق الثوري الأيديولوجي الذي دشنه النظام منذ سبتمبر العام 1969. ومع مرور الوقت تحول قانون تجريم الحزبية إلى عملية قتل ممنهجة لأي عملية تحديث سياسي ولأي تعددية سياسية أو فكرية أو ثقافية داخل المجتمع والدولة.

ثم يتطرق المؤلف إلى الإجراءات التي اتخذتها السلطة السياسية عقب خطاب زوارة الذي ألقاه معمر القذافي في 15 أبريل 1975وحملة الاعتقالات التي أعقبته وطالت النشطاء السياسيين والمثقفين والأدباء والكتاب، وأيضا مداهمة المكتبات وحرق الكتب وتشكيل اللجان الشعبية لتتولى إدارة كل مؤسسات الدولة ولتكون بمثابة الجهاز العقائدي الأمني الذى يضمن الولاء للقائد ويتصدى لأي خروج عنه.

كما يتطرق المؤلف إلى صدور الكتاب الأخضر في 1975 وإعلان سلطة الشعب في 1977، وقد أصبح الكتاب الأخضر وما ترتب عليه من إجراءات تنفيذية لتطبيق ما ورد في أجزائه الثلاث بمثابة المشروع التحديثي للقذافي الذي سخرت له أموال الدولة بسخاء منقطع النظير، وهو المشروع الذي تضمن تفكيكا منهجيا لمؤسسات الدولة وتحول التعليم والثقافة والإعلام والفنون إلى روافع أيديولوجية وترويجية. وتحت عنوان: «ليبيا الغد تصحيح مسار أم إعادة تأهيل» يتناول المؤلف ما سمي «مشروع ليبيا الغد» الذي أطلقه سيف الإسلام، الابن الأكبر لمعمر القذافي، في المناخ الدولي الذي جاء بعد 11 سبتمبر، وهو محاولة من داخل النظام للصمود والبقاء في ظل متغيرات دولية صارت تهدد بقاءه، لكن المشروع-

كما يقول المؤلف - فشل في إحداث تغييرات في المنظومات الثقافية والتعليمية والإعلامية، وفي إحداث تغييرات في البنى الاجتماعية التقليدية، وفي تفكيك الأحزمة الأمنية- القبلية للنظام وفي مأسستها وإخضاعها للقانون.

وفي الفصل الثالث الذي حمل عنوان «التعليم مدخلا للتحديث السياسي والاجتماعي في ليبيا» يتحدث المؤلف عن تجربة التعليم خلال العهدين الملكي والثوري، ويخلص إلى أن الانقسام والتشظي الاجتماعي والمؤسساتي الذي بدأت نذره منذ الأيام الأولى للثورة في 2011 «لم يكن وليد اللحظة الثورية، بقدر ما كان نتيجة متوقعة لقصور مشاريع التحديث السياسي والاجتماعي منذ ظهور الدولة الوطنية، خاصة خلال العقود الأربع الأخيرة التي شهدت تفكيكا ممنهجا لمؤسسات الدولة وتوظيفا للمقدرات المالية الريعية الضخمة لخدمة الحكم الفردي» (ص 72). وأن التحديث المادي لم يرافقه تحديث اجتماعي وثقافي وذهني، وبالتالي عادت القبيلة (التي جرى توظيفها في السابق لضمان استقرار النظام) لتعيق بناء الدولة وتخلق حالة من عدم الاستقرار.

يختم المؤلف كتابه بالتأكيد على فشل مشروع التحديث المادي في ليبيا خلال ستين عاما، والذي لم يرافقه تحديث اجتماعي وثقافي وذهني بالقدر نفسه، مشككا في جدية هذا التحديث وجدية النخب التي أشرفت عليه خلال العهدين ومدى تملكها للرؤى والأهداف والغايات لإحداث تغييرات عميقة من شأنها تجاوز البنى الاجتماعية والثقافية التقليدية، وعن ديناميكية المجتمع نفسه ومدى قابليته للتحديث في هذا الحيز الزمني في ظل تراكم الثقافة التقليدية على امتداد القرون.

ويخلص الباحث إلى القول: «لا شك أن الثورات على الأنظمة الاستبدادية، من بينها ثورة 17 فبراير، فعل سياسي واجتماعي مهم، وتحول جذري وكبير، في تاريخ الشعوب، غير أن هذا التحول لا يؤدي، بالضرورة، إلى إقامة نظام ديمقراطي ولا إلى تحديث الدولة والمجتمع ما لم ترافقه قراءة نقدية واعية وموضوعية للإخفاقات التي أضاعت على البلاد ستة عقود كاملة، وأهدرت من أجيالها ثروات لن تعوض، وأودت بالكيان الليبي إلى وضع الدولة الفاشلة، والمجتمع المعطل، ما لم يتم التوافق على مشروع وطني جامع ومتكامل يأخذ في الاعتبار المطالب العاجلة في تحقيق الأمن الفردي والجماعي وتجاوز المختنقات الاجتماعية، والمطالب التأسيسية بعيدة المدى المتعلقة بتفكيك البنى الاجتماعية والثقافية والذهنية التقليدية وإقامة مؤسسات تحول دون الارتداد إلى مربعات الفشل والعشوائية» (ص 84).