Atwasat

استقلال.. لن يتكرر (3)

سالم الكبتي الأربعاء 04 يناير 2023, 09:56 صباحا
سالم الكبتي

كلمات في الموسم الحادي والسبعين

وكان من العادي جدا في هذه الأجواء التي تتلبد أن تتلاحق - وذلك من ناموس الأشياء -

نقاط الصدام وتتسلسل دفعة واحدة أو تتباطأ لتظهر بين حين وآخر. استقلال ظل يواجه التحديات والصدمات.. والضربات أيضا!

عقب الاغتيال المثير للصدمة والدهشة معا لناظر الخاصة الملكية كاد الملك أن يدخل أو لعله أدخل نفسه في حالة من العزلة الواضحة: ابتعد عن المدينتين الكبيرتين وهما العاصمتين للبلاد طرابلس وبنغازي وأقام في عوالي طبرق البعيدة عن مقار تصريف الأعمال وشؤون الدولة في العاصمتين اللتين ظلتا تشهدان وجود الحكومة والبرلمان والمسؤولين إضافة إلى مؤسسات الولايات. انتابه المزيد من سوء الثقة في كثيرين.

تبدلت نظرته عنهم. صار بعيدا عن مواقع الحدث ولم يعد ثمة مصدر مؤكد ووثيق للمعلومات التي ترده طوال الوقت مثلما كان يقوم به الناظر القريب جدا منه كل اليوم والليلة. ازدادت الهوة مع العائلة وأقاربه ووصل به الغضب إلى نقلها للإقامة في أماكن ومدن أخرى من البلاد.

كان ذلك أمرا فيه تعسف وغلظة نالت من لا علاقة له مباشرة بالاغتيال. وهذا التعسف أمام الحالة النفسية للملك لعبت فيه أطراف أخرى بقوة وأرضعته من جوفها وصورت الموضوع على أنه انقسام حاد في الأسرة وأعادته إلى جذور ليس لها أساس صحيح في الواقع وفي غمرة ذلك كله تناسى المتابعون أن الشريف محي الدين حفيد أحمد الشريف وابن شقيق الملكة قام بالاغتيال وحده ونفذه وحده كما اتضح أمام الجميع  دون علم العائلة أو بتحريض منها.

وبدا باعترافه في التحقيق والمحكمة أنه المسؤول الأول والوحيد عن قيامه بالاغتيال.. وذلك صحيح مائة بالمائة لكن تناسى أولئك المتابعون أيضا وربما حتى الآن أن هذا الحادث الذي كان صادما في تاريخ الاستقلال وبواكيره لايمكن أن يظل (مشروعا وحده) أو (فعلا تم بالصدفة العابرة) فقد كانت هناك أطراف وجهات يهمها حدوث ذلك الشرخ العميق في الأسرة وفي جدار الاستقلال وثمة دلائل ظلت تفسر هذا كله بمضي الأعوام غير أنها بقيت كامنة في الصدور أو وضاعت في وثائق بعض السفارات وبعضها اختفى بموت العديد من الشهود!

فكيف يضرب كيان العائلة في مقتل بعد الاستقلال بثلاث سنوات فقط وهي التي كانت على وجه العموم متجانسة وتعتبر الملك رئيسها وشيخ طريقتها وتلتقي معه دون التدخل في السياسة كل شهر في ملتقى العائلة الذي يسمى بنادي إدريس الأول في ضاحية الفويهات ببنغازي؟ ومن هو الفاعل الحقيقي الذي نجح ذلك العام في هز قواعد الاستقلال وإبعاد الملك عن عائلته؟ هل كان ذلك مجرد اختبار صعب مع بداية خطوات الاستقلال.

تظل الإجابة عنه أصعب وتقود إلى مجاهل كثيرة من الحيرة والقلق. إن الاغتيال في كل الأحوال لم يكن حادثا عابرا والملك اعتبره موجها له شخصيا. فمن كان وراء ذلك وخلق نقطة من نقاط الصدام مع الاستقلال ومع الدولة ومع العائلة.

والحادث من حيث هو كان أول وآخر اغتيال سياسي داخل ليبيا وإذا كان قد حمل في ظاهره واسطة الأسلوب العائلي غير أنه يظل من الصور الغريبة عن المجتمع الليبي الذي لم يعرف في الغالب حتى ذلك الوقت منهج التصفيات الشخصية والثارات على المستوى السياسي بهذا الشكل.

والحادث أيضا عندما قررت (أطرافه البعيدة) الدفع به لهز الدولة الوليدة بهذا الشكل غير المألوف وعن طريق أحد أقارب الملك يدلنا على أنه حدث في الموقع الخطأ وبالأداة الخطأ وبالتصرف الخطأ!

وإضافة إلى العوامل الصحية التي بدأت تنتاب الملك الذي كان يقترب من سنوات عمره الأربعة والستين عقب حادث الاغتيال لناظر خاصته التي زادت من جراحه وآلامه اليومية.. فإنه بادر إلى تقديم استقالته والعزوف عن ممارسة السلطة ردا على ما حدث وإن لم يكن قد جعله سببا لتلك الاستقالة الأولى في تاريخه السياسي وتاريخ الاستقلال.

لم تتم الاستجابة لها وتم تداول دراستها معه في محيط ضيق وتراجع عن ذلك تماما.

ثم حاول نتيجة لنقاط الصدام الشروع في إجراء تغييرات وتبديلات في نظام الحكم بحيث يصبح جمهوريا ولم ينجح أيضا في تلك المحاولات التي أعادها بتقديم الاستقالة عام 1964 بعد عشر سنوات من حادث الاغتيال

ثم باستدعاء السيد إدريان بلت الذي شارك في خطوات نيل البلاد استقلالها ومناقشته عام 1966 في إمكانية تغيير نظام الحكم إلى شكل جمهوري ويبدو أن الملك قارب أن يقول: دعوني أقوم بذلك في متسع من الوقت وبرضا مني ومنكم قبل أن يأتي آخرون.

وذلك لم يقابل بالرضا من أطراف لم تتفق مع وجهة نظر الملك ولعلها فطنت إلى ذلك في ضيق من الوقت!

أحداث أخرى عن حادث اغتيال ناظر الخاصة الملكية برزت واستمرت ولم تخفِ نفسها كان في مقدمتها ظهور شخصيات كثيرة في البلاد على السطح وفي الأعماق ظلت تتنافس سياسيا واقتصاديا واجتماعيا فيما بينها وسمحت لها الظروف بأن تكون كما لو أنها وريثة لناظر الخاصة الذي رحل. تمددت أطرافها واستطاعت التأثير في بعض دوائر القرار والنفوذ وأن تكتسب المزيد من المنافع والفوائد.

مجموعة ظلت تقترب بحدة وبقوة ولعل ذلك جعل الملك يتغاضى بطريقة أو بأخرى عن كثير من التصرفات التي تقع نتيجة للتأثير العاطفي الذي يأسره إضافة إلى العلاقة الخاصة التي تربطه منذ القدم بناظر خاصته وأسرته من بعده وربما شعر الملك بأنه يقوم بواجب من الصعب التخلي عنه تجاه رب الأسرة الذي كان اغتياله بسببه وبقربه الأثير منه. 

وهذه المجموعة التي تمددت أساءت للملك في الواقع وأساءت كثيرا لنظام الدولة وخلقت المزيد من مشاعر التململ وعدم الارتياح وأبانت في اللحظة ذاتها عن صدام يتكرر ويتجدد.. ويتمدد! 

وكان هاجس الوراثة ماثلا على الدوام في ذهن الملك وأيضا على مستوى الدولة. حصر الدستور الوراثة في شخص الملك ومن صلبه. في أوائل عام 1953 رزق الملك بمولود ذكر أسماه الأمير محمد المهدي. لكن البهجة لم تدم أكثر من يومين. كان الملك قد اختار أخاه محمد الرضا وليا للعهد. توفي عام 1955.

فاختار من بعده عام 1956 ابنه الحسن وليا للعهد. وكان الأمل لدى الملك والمقربين قويا في أن يرزق بوريث يصون الاستقلال والدولة وفي هذا السبيل جرت محاولة نهاية 1953 لخطبة احدى كريمات الأمير عبدالكريم الخطابي لتكون زوجة للملك إدريس.

كان وراء الاقتراح السيد إبراهيم الشلحي ناظر الخاصة وأخفق في ذلك.

ثم تجدد الأمل بعد وفاة ناظر الخاصة بزواج الملك من السيدة عالية عبدالقادر لملوم ذات الأصول الليبية عام 1955. زواج تم لكنه لم يطل أكثر من شهرولم تستمر المحاولات أو الآمال. 

ومع كل هذا وصلت الشركات الأجنبية للتنقيب عن البترول عام 1954 وبظهوره لاحقا ازدادت نقاط الصدام السياسي والاجتماعي وفجوات الفساد.

وكانت البلاد تعيش إرهاصات ومقدمات لما سيأتي بالقضاء على الاستقلال بالتدريج. وكان الخطاب المجاور كما يعرف الجميع لا يهدأ وأصداؤه تتردد عندنا طوال النهار والليل. ثورة الجزائر ثم معركة بورسعيد 1956. 

مظاهرات في أغلب المدن. اتهامات بمشاركة قاعدة العدم في طبرق في ضرب مصر. بدت الاتهامات غير صحيحة واعتذر عبدالناصر عن ذلك رسميا في خطابه في عيد النصر ذلك العام.

وترافق ذلك بنشوء جيل آخر لم يتواءم ومرحلة الاستقلال. في العام 1958 انفجرت بغداد والتهبت ذلك الصيف. سقوط الأسرة المالكة وتصفيتها بالكامل.

وكان صدى ذلك عندنا حماسا لا يحد. إلى درجة أن البعض ابتهج بسيل الدماء الذي حدث وتمنى أن يحدث مثيله في ليبيا في أقرب وقت. (كان هذا البعض) من مسؤولي دولة الاستقلال وبناته المرموقين وقد صرح به تلك الأيام في مجالسه للعديد من أصدقائه ومعارفه. 

استقلال نال الكثير من معارضيه.. ومؤيديه ومن أسهم في صنعه أيضا ذات يوم!