Atwasat

مرثية لمكتبة موءودة!

أحمد الفيتوري الثلاثاء 03 يناير 2023, 12:54 مساء
أحمد الفيتوري

دار الكتب الوطنية، ليست مجرد دار للكتب، لكنها تاريخ وذاكرة وخازن حقوق. دار الكتب الوطنية الليبية تأسست لتكن كمثيلاتها، ولهذا هي قلب البلاد وعقل ناسها، وقد نجحت لسنوات، رغم الإهمال وشح الإمكانات، في أن تؤدي جزءا كبيرا من مهمتها، وحتى إنها جعلت من قاعاتها، غير مكان للدرس والبحث، مكانا أيضا لدورات علمية ونشاطات ثقافية.

الدار موقعها مدينة بنغازي، ومن هذا نالها ما نال المدينة وأكثر، حتى إنها منذ الحرب التي واجهتها البلاد أمست مغلقة، وهي كالعقل والثقافة يتيمة لا أهل لها، من هذا لم تجد من يتبناها ويذود عنها فعل البشر والزمان. وهي الآن اليتيمة تحتاج أن نقوم كبلاد وبشر بإعادتها للحياة، فحتى إن أصابت السكتة القلبية مكتبات خاصة شهيرة، فإن دار الكتب الوطنية ليست مكتبة وليست خاصة. وقد يكون من أسهموا في تأسيسها قد توفى الله أجلهم، فإن مهمة المحافظة عليها تخص البلاد وأبناءها كافة، على المستوى الشعبي، أما على المستوى الرسمي، فالأمر طبعا يخص الحكومة، والحمد لله فإن دار الكتب الوطنية الليبية في بلاد فيها أكثر من حكومة!

ومن دار الكتب إلى المكتبات الخاصة، المصابة بمصاب جلل، مصاب عصر فيه التقنية تمحو وتزيح، مكونات أساس في الحضارة البشرية، وعلى رأسها للأسف الصحف والكتب الورقية، وعليه بتنا نرى ونسمع، كيف يجري دفن مكتبات وصحف بيسر وسهولة. ومنها مكتبات مؤسسة للبلاد، ومساهمة فاعلة في تزويد عقله بالمعرفة، مثل «مكتبة قورينا» في مدينة بنغازي.

كنت كتبت في «سيرة بني غازي»، شيئا من سيرة مكتبة قورينا، التي هي علامة حياة نابضة في المدينة، ما تلم بها الكوابيس، من أثر ما حاق شوارعها القديمة، التي هدمت الحرب عمائرها وعاث فيها الإهمال فسادا. وعن حجب ذا المشهد أنحرف إلى أرفف الذاكرة، فأرى ما لا أرى: مكتبة قورينا الغاصة بالكتب وما من مطرح لمزيد، فكان ديدن صاحبها المزيد والمزيد من الكتب ومن جديدها. صاحبها الراحل «عبد المولي لنقي» حمل على كاهليه ما يُحب، وأحب أن يجعل الكتابَ حبهُ الأول والأخير حبيب الناس كافة. للكتاب ضرةٌ تزوجها عن حبٍ جارف: «ليبيا» أسطورته الأولى والأخيرة، وإن أردت أن ترى المُقاتل فيه، استفزهُ بالطعن في المعرفة، وأظهر جهلك بـ «ليبيا». فيما يخُصُ الكتاب، منذ مقتبل العمر منح جدوى العُمر له، أينما ثمة كتاب هو، أينما ثمة ما يخص ليبيا من كتب، يُكرس الوقت والجهد والمال، لم يعرف كصاحب دار نشر أو مكتبة أن يعنى هذا مشروعا تجاريا، كما رفيقه في النضال والكتابة الكاتب والناشر الراحل "علي مصطفي المصراتي"، وكذا الحال فيما يخص البلاد.

أتخطى الممر وأقف مشدوها، كأن عبد الرحمن بدوي يتكئ في مكانه المعتاد بالمكتبة، عبدالرحمن بدوي، من خلت أنه طلق بنغازي منذ طاله سجنها السياسي، في السبعينيات الطائشة من القرن العشرين، صديق عبد المولى لنقي عاشق الكتب وصاحب قورينا، الذي يخرج من مكتبه موقفا انشداهي، أتفحصه ومن خلاله أتصفح المكان: في نظرته سؤال دائم، فتختلط حمرة الوجه ببياض شعر الرأس، ينهض قبالتك رافعا حاجبيه في استفسار مقدم عن حاجتك، هو ولد لنقي عند أهل المدينة، هو شغف كتب عند نفسه، وعند أهل الكتاب، منذ أول الخمسينيات شب عن الطوق متخذا موقفا قريبا من جمعية عمر المختار الطوق السياسي للمعارض، ثم صار وزيرا للعمل والشئون الاجتماعية. لكن الكتاب هو داره وآله، فكانت دار ليبيا للنشر ما نشرت كثيرا من كتب محتواها ليبيا كذا دار ومكتبة قورينا. مكتبة قورينا دفنت تحت أنقاض المدينة، وقد رحل صاحبها أيضا وأصدقاؤه من الكتاب.