Atwasat

أسطورة بيليه والجمال الصامت

سالم العوكلي الثلاثاء 03 يناير 2023, 12:52 مساء
سالم العوكلي

معرفتي لبيليه، أو سماعي باسمه بدأت في طفولتي نهاية عقد الستينيات، اقتصرت على صورته التي كانت الهدف الرئيس للعبة نسميها (التصاور) جمع صورة، كانت شائعة في ذلك الوقت، وهي لعبة تعتمد على جمع أكبر قدر من صور المشاهير التي كانت تباع حتى في أسواق القرى، من رياضيين ونجوم سينما وغناء وغيرها، وعلى كل طفل منا أن يكون له رصيد من الصور يقايض به أو يقامر للحصول على المزيد، حيث يجمع لاعبان أو أكثر مجموعة من الصور ويضعونها هدفا يبعد حوالي عشرة أمتار لإطاحتها والحصول عليها جميعا، وكانت أداة إسقاطها تسمى (بازيّة) تصنع عادة من علب مفلطحة يوضع بها تراب لزيادة وزنها، أو حجر غير سميك يمكن أن يزحف على الأرض ويطيح بالصورة، وأخطر هذه الأدوات هي السلسلة الحديدية التي تزحف عرضيا ما يجعلها، في تسديدة واحدة، تسقط أكبر عدد من الصور المثبتة هدفا في كومة تراب صغيرة. أما ورقة اليانصيب أو الورقة الثمينة في تلك اللعبة كانت صورة اللاعب البرازيلي بيليه التي عادة نقايضها بعدة صور لمشاهير آخرين، ولم تضاهها إلا صورة الملاكم المسلم محمد كلاي، وبالطبع يدخل في هذه البورصة للصور التي ترتفع قيمتها أو تهبط نجوم مثل جون واين وتشارلز برونسون ومارلون براندو وكلينت إيستوود.

لم يصل وقتها التلفزيون ولا توجد صحف أو مجلات، وكانت هذه الصور هي علاقتنا الوحيدة بهؤلاء النجوم الذين كانت تحاك حولهم أساطير كثيرة ترفع من قيمتهم التداولية أو تخفض. لم نشاهد بيليه يلعب ولكن كنا نحن من نلعب به، وعبر هذه الصور كانت هالات نجوم العالم تصل إلى أطفال يعيشون في الخلاء مثلنا بعيدين عن كل وسائل الدعاية والترويج، ضمن تقنيات هائلة لصناعة النجوم والأساطير لا تترك حيزا في هذا العالم، وجاءت الصورة لتدفع بهذا التسويق الهائل لأيديولوجيات أو سياسات أو حتى أنظمة دكتاتورية تكمن خلفها، وهي تنتشر عبر الكون دون أن تنسى حتى من يعيشون بمعزل عن هذه الحضارة التي تحول كل ما فيها إلى سوق، وعلى هامش هذا الصراع كانت تنمو أوقات المرح العفوي مستثمرة الشغف بالنجوم لتحقيق أكبر المكاسب.

كان بيليه ومن ثم كلاي أول أيقونتين يتحول عبرهما اللون الأسود للإلهام، غير أن بيليه، المسمى الجوهرة السوداء والمولود في منطقة باورو الفقيرة والذي عمل في صباه مساحا للأحذية، أصبح مع الوقت رمزا لتجميل نظام دكتاتوري كان يهيمن عليه اليمين، ورغم ما شهدته لعبة كرة القدم من تطور في العقود الأخيرة وظهور نجوم كبار ظل بيليه وحده يحتفظ بمأثرة حصوله مع فريقه على بطولة ثلاث دورات لكأس العالم لكرة القدم (1958، 1962، 1970). زامنت فيها الدورتان الأحيرتان حقبة تأهب العسكر، أو ما يسمى الخونتا، للانقضاض على السلطة، والتمكن منها وما تبع ذلك من إرساء نظام استبدادي انقلب على الديمقراطية في البرازيل ونكل بالمعارضة؛ التي كان اليسار لبها، لمدة عقدين، منذ 1964 إلى 1985.

الخونتا والتي بدأت كظاهرة تنتشر الآن في منطقتنا بعد إجهاض أحلام الربيع العربي في الديمقراطية، نظام يقوده نخبة من ضباط الجيش، وتعني في اللغة البرتغالية (المجلس)، أو ما استقر على تسميته المجلس العسكري الذي عادة ما ينقض على الفراغات السياسية التي تتسبب فيها الصراعات الديمقراطية وما ينشأ عنها من أزمات تفضي إلى انقلابات عسكرية غالبا ما تفرض سياسة الأمر الواقع، أو تطيح بالدستور بحجة الحفاظ على النظام العام أو السلم الاجتماعي أو الأمن القومي، أو غيرها من الذرائع، ويحدث أحيانا أن يطول هذا الحكم العسكري خصوصا حين تكون الخونتا وراء التخطيط لشغور منصب الرئيس أو الفراغ السياسي عموما، وما زال هذا التكنيك نشطا في فلكلور منطقتنا السياسي.

عام 1961، وقبل فوز البرازيل بكأسها الثاني وفي ذروة لمعان النجم بيليه، أعلن الرئيس المنتخب جانيو كوادروس استقالته من الرئاسة، متوقعا خروج حشود في الشوارع تطالب بعودته، لكن حسابات كوادروس في مجتمع يعاني من أزمة اقتصادية حادة لم تكن في محلها؛ ولم يطالبه أحد بالعودة، فأصبح منصبه شاغرًا، ووفق الدستور الساري كان من المفترض أن يحل نائب الرئيس غولار بديلا للرئيس المستقيل، وعاد النائب من رحلته إلى الصين في ظل اتهام له من قبل الجناح اليميني القوي المدعوم من أمريكا بأنه شيوعي رغم كونه قوميا معتدلا. وفي 13 مارس 1964 ألقى غولار خطابًا وعد فيه بتأميم محطات تكرير النفط الخاصة ببلاده، إضافةً إلى إجراء إصلاحاتٍ أساسية في المصارف وبنى الاقتصاد، ما تسبب في خروج مجموعات من المحافظين في مسيرة من ساحة الكاتدرائية في ساو باولو في احتجاجات عُرفت باسم «مسيرة العائلة مع الله من أجل الحرية» تندد بغولار وسياساته الاشتراكية المعلن عنها. وكانت الفرصة مواتية لتأهب العسكر للانقضاض على السلطة وتعطيل الدستور. وبعد ثلاث سنوات من حكم غولار الذي كانت صلاحياته محدودة، وعبر سلسلة من الأحداث، أطيح بالرئيس المنتخب من قِبل ضباط في الجيش وبدعم من إدارة الولايات المتحدة، واستمر الحكم المؤقت عقدين من أكثر حقب البرازيل قمعا وعسفا، وكانت أشباح المكارثية تتسكع في شوارع البرازيل تلاحق كل من تفوح منه رائحة اليسار أو شبهة تعاطف مع المزاج الاشتراكي، ومن ضمنها تم التشديد على مراقبة نجوم الفنون المختلفة المشتبه في ميلهم إلى اليسار، وكان نجوم الرياضة، وكرة القدم خصوصا، اللعبة الشعبية التي حققت مجدين للبرازيل قبل الانقلاب هدفا لهذه المراقبة الصارمة.

نشرت صحيفة '«يو أو إل» البرازيلية وثائق تؤكد أن بيليه خضع للتحقيق من قبل البوليس السياسي أثناء فترة الحكم الديكتاتوري في البرازيل عام 1970 بعد تلقيه رسالة من بعض السجناء السياسيين يطلبون فيها دعمه للإفراج عنهم. وأفاد الصحفي ريكاردو بيروني أن بيليه لم يتسلم الرسالة فعلياً، وأن من تسلمها خوليو مازي مدرب اللياقة البدنية لفريق سانتوس الذي سلمها بدوره للسلطات المختصة في ساو باولو، ما تسبب في فتح تحقيق مطول مع بيليه الذي أنكر تماما علمه بالرسالة، كما أكد أنه ضد الشيوعية، ما جعله يمتنع عن تقديم يد العون إلى الحركات المناهضة للحكم العسكري.

وذكر التقرير الذي نشرته «يو أو إل» أن اللاعب البرازيلي السابق أكد أن بعض الموالين للمعارضة الشيوعية تواصلوا معه أثناء اشتراكه في بعض المباريات الدولية أمام المكسيك وكولومبيا للتوقيع على وثيقة مناهضة للحكومة في ذلك الوقت، إلا أنه رفض الأمر بشكل قاطع كونه معارضا للشيوعية. وأشارت الصحيفة إلى أن بيليه كان يقول دائما إنه وهب نفسه إلى رياضته المفضلة ولا يرغب في أن يقحم نفسه في أي مشاكل تتعلق بالسياسة.

ورغم القيمة الخاصة التي كانت تحظى بها صورة بيليه في ألعابنا الطفولية، إلا أنه كان يقدم نموذجا معاكسا تماما لمجايله محمد علي كلاي الذي اكتشفنا فيما بعد مواقفه السياسية الحادة من العنصرية والحروب والإمبريالية، كما كانت هذه الروح المهادنة لدى بيليه جوهر اختلافه مع أسطورة أخرى لكرة القادم زاحمته في استطلاعات لاعب القرن، مارادونا؛ الذي كان يجاهر علنا بدعمه لليسار وبصداقته القوية مع فيدل كاسترو وبتمرده على السلطات الأوليجارشية من سلطة الفيفا إلى اللوبيات الرأسمالية في الولايات المتحدة، ما أدى في النهاية إلى تلفيق تهمة تعاطيه المنشطات في بطولة كأس العالم التي أقيمت العام 1994 في أميركيا وإيقافه عن اللعب.

يتفق الكثيرون أن بيليه هو من أضفى تعبير «اللعبة الجميلة» على كرة القدم، لكن هذا الجمال الذي تفتقت عنه ملاعب المستديرة ظل صامتاُ بعكس جمال مارادونا الصاخب.

في يونيو 2013، تعرض لانتقادات من الرأي العام بسبب آرائه المحافظة. وخلال احتجاجات البرازيل 2013، طلب بيليه من الناس ترك المظاهرات ودعم المنتخب البرازيلي.

ورغم تبرُّئه الدائم من السياسة، نشر بيليه في 1 يونيو 2022، رسالة مفتوحة إلى رئيس روسيا فلاديمير بوتين على حسابه على إنستغرام، وجه فيها نداءً عامًا لوقف الغزو الروسي «الشرير» لأوكرانيا، والجدير بالذكر أنه لم يرسل رسالة لأي رئيس أمريكي حينما كانت أمريكا تجتاح وتحتل دولا تبعد عنها آلاف الأميال.

في 29 ديسمبر 2022 أعلن مستشفى (ألبرت أينشتاين) بمدينة ساو باولو الذي كان يعالج فيه بعد أن صاحبت صورته وأخباره آخر مونديال تابعه في الدوحة، وبعد أن اكتملت في هذه البطولة صورة أسطورة جديدة لهذا القرن تمثل نوعا آخر من الجمال الصامت.