Atwasat

كل عام والإنسانية بخير

محمد عقيلة العمامي الإثنين 02 يناير 2023, 04:38 مساء
محمد عقيلة العمامي

«منضدة قصية معزولة، لشخص واحد، في صالة مبهجة ومزدحمة
وتصدع الموسيقى فيما تتداعى ذكرياتك.
الموسيقى ما زالت كما هي.. مبهجة
ولكنها تأخذك إلى حزن جليل على الرغم من أنك تتذكر بهجتها.
تظل الموسيقى كما هي، وكلمات الأغاني لم تتغير، وإنما أنت من يتغير.
لم تعد أنت كما كنت... لم تعد ذكرياتك المبهجة مبهجة بالفعل».

هذه ترجمة لكلمات أغنية غربية، كثيرا ما أثارت حزنا لا داعي له، غالبا يأخذنا، عندما كنا شبابا إلى حالة انفعالية مفتعلة لقضاء أمسيتنا خصوصا عندما نكون خارج الوطن!
أغنية (Engelbert Humperdinck) كانت من الأغاني الأجنبية، التي تثيرنا في شبابنا، تماما مثل أقوال عديدة لمن كنا نقرأ لهم من الكُتاب الغربيين، بسبب تخصص دراستنا، وأيضا لمجاراة (كولن ويلسون) في رحلة ضياعه في أزقة وحانات (سوهو).

لعلنا كنا في تلك الفترة تجاوزنا منتصف عقدنا الثاني بسنة أو اثنتين، حينها كنا نعتقد أن أقوال الكتاب والمفكرين الغربيين بليغة ودقيقة وتعبر عما في صدورنا، فالمرحلة قبل الجامعية ظل منهج اللغة يضعف بتواصل انفتاحنا على الغرب، في حين كان اهتمام الغرب بثقافتنا وتاريخنا يتضاعف باستمرار.

ظللت طويلا، والعديد من رفاقي، مأخوذين بأقوال الغربيين، هذا جون شتاين بك يقول في مؤلفه رحلاتي مع تشارلز، وتشارلز هذه اسم كلبته!: (من تشرد مرة تشرد إلى الأبد). وهذا هيمنجواي يقول: (السعادة عيد متنقل ليس له تاريخ ثابت) ويقول إن (الحرب مهما كانت مبرراتها مجرد جريمة) و«الأصم الصامت أفضل بكثير من أصم ثرثار..»، كثيرة هي الأمثلة، التي عرفناها، وأخذنا بها وظللنا طويلا نرى أنها البلاغة الحقيقية، إلى أن عرفت المتنبي، وأبوالعلاء المعري، والبياتي، وبدر شاكر السياب، وغيرهم!

لم يكن يمض يوما من دون أن أسمع من الراحل خليفة الفاخري بيتا من أبيات المتنبي، ولم أقف ساعة مع جاري وصديقي الراحل سعيد العبار، حتى نفترق وتزداد حصيلتي من أغاني (العلم) الليبية البليغة، هذه الأغاني الذي سماها الأديب الراحل خليفة التليسي قصيدة البيت الواحد. وهو الموضوع الذي ما زلت أتمنى على الأستاذ الراوية الشاعر سليمان الساحلي أن يعجل بإصدار دراسة والدة المرحوم على الساحلي التي قارن خلالها بعلاقة شعر المعلقات بأغاني العلم، منها هذه الأغنية، التي أرى أنها بليغة جدا:

«غلاك كيف الكيف، وكيف ننساك يا كيف خاطري». توظيف الحرف بيت شعر يسمى في الأدب الإنجليزي (Alliteration)، وفكرته أن يتكرر الحرف في مطلع كلمات البيت، ففي قصيدة: (Poison Tree) أو الشجرة المسمومة التي يقول فيها على لسان الثعبان حول ساق الشجرة: «And I sunned it with smiles, And with soft deceitful wiles»، خذ التفاحة تناولها، فلقد أنضجتها بابتسامات وأمنيات، موظفا حرف (S) ليبدو بنطقه كحفيف الثعبان، وبسبب ذلك تعد أبلغ أشعاره، وها هو صاحب أغنية العلم (الكائية) نسبة إلى حرف (ك) الذي يكرره ببلاغة وموسيقى شعرية، هذا الحرف الذي يوحي للمستمع بالتساؤل والعجب.
وعرفت من الفاخري رحمه الله أن من يضاهيه في حفظ أشعار المتنبي، في بنغازي هما الأستاذان: عبدالقادر غوقة ومفتاح الدغيلي.

ولماذا أحدثكم عن هذه المعلومات التي لا أشك أنكم تعرفونها، لأنني ببساطة وددت أن أقتبس قولا أو شعرا يلخص ما أحسست أنه يعبر عن نفسيتي صباح اليوم، وهو بالمناسبة أول أيام هذه السنة المباركة، التي غالبا ما يبتدئها المرء بتفاؤل وبقلب يحاول أن ينظفه من الخبث، والحزن الغضب، وكدت أن أنتقي بيتا لا يتناسب أبدا وهذا اليوم المبارك فدعونا نبحث في أقوال المتنبي المبهجة، فقط، عن هذا الذي أريد أن أستثمره كبداية مبهجة لهذه السنة المباركة بعون الله.

ولم أرَ في عُيوبِ الناس شَيئاً ... كنَقصِ القادِرِينَ على التَّمامِ
والحقيقة أنني وجدت كلمة (شيئا) في هذا البيت في أكثر من موقع، مستبدلة بكلمة (عيبا) وعلى الرغم من أنني أرها أنسب، إلاّ أنني لا أستطيع أن أجزم بقوة رأيي لأن مثل هذه الأمور البسيطة، ليست بالبساطة التي نعتقدها، فاللغويون المتخصصون، غالبا ما يكون لديهم ما يقولون عن سبب اختيار الشاعر لكلماته.

أما البيت الثاني الذي أخذني هذا الصباح هو:
"إذا نلتُ منكَ الود فالمال هَين، وكُلّ الَذي فوَقَ التُرابِ ترابُ"، البيت جميل وبليغ، وكل ما نحتاجه لتأكيد بلاغته، هو أن نفكر عما يريده الصديق، من صديقه، أو الحبيب من حبيبته أثمن من الود.. الود الحقيقي، وإن كان المرء لا يستطيع أن يتنكر للمال لأنه ليس (هين) ولكنه عندما يهون في يد القادرين على الكمال ومصاحبا للود؟ يكون الحال عيدا باذخا متنقلا، كالذي أتمناه لكل الناس الذين أحبهم أخص منهم الرفاق الخيرين الجيدين، الذين يبهجني ويسعدني ذكرهم في الأوقات كلها، والذين تتداعى صورهم في خيالي وأن أرفع تهنئتي هذه للإنسانية كافة.
كل عام والمودة والثراء النفسي يحيط بكم وبرفاقكم وجيرانكم وأبناء وطنكم.. وبالإنسانية كافة.