Atwasat

مشروع «بيفن سفورزا» برعاية ليبية

خالد العيساوي الخميس 29 ديسمبر 2022, 06:34 مساء
خالد العيساوي

لا بد أن نستذكر التاريخ ونحن نعيش الذكرى الحادية والسبعين لاستقلال ليبيا، لا بد أن نقف عند اللحظات المفصلية التي مرت بها البلاد في سبيل تحقيق استقلالها، فبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية تصارعت القوى العالمية المنتصرة على بسط نفوذها في ليبيا، وعقدت المؤتمرات المتعددة في عواصم أوروبية مختلفة من أجل مناقشة القضية الليبية، أو لنقل من أجل مناقشة كيفية الاستفادة من القضية الليبية، تمخضت هذا اللقاءات عن ظهور مشروع «بيفن سفورزا» القاضي بفرض حالة من الانتداب على ليبيا، على أن تنال البلاد استقلالها بعد عشر سنوات من هذا الانتداب، وقد رأى بيفن وزير خارجية بريطانيا حينها مع نظيره الإيطالي سفورزا أن تقسم ليبيا إلى ثلاثة أقاليم: طرابلس وتكون تحت الانتداب الإيطالي، وبرقة وتكون تحت الانتداب البريطاني، وفزان وتكون الانتداب الفرنسي، في هذه الأثناء كان الاتحاد السوفيتي يأمل في فرض وصاية من الأمم المتحدة على ليبيا، الأمر الذي رفضته أميركا بقوة حتى لا تشكل ليبيا نقطة انطلاق للتوسع الشيوعي في أفريقيا.

هنا تفرد مشروع «بيفن سفورزا» بالمشهد، ولاقى قبولاً من الدول الكبرى، لكن الوطنيين من الليبيين أدركوا خطورته وعملوا على توحيد الصف الداخلي ضده، واستطاعوا جمع مئة وخمسين ألف توقيع يندد بهذا المشروع وينادي بالاستقلال، وهذا رقم يشكل نسبة كبيرة من عدد السكان حينها، خاصة إذا ما استثنيا من هم دون السن القانونية، وكذلك المرأة التي لم تكن تشارك في الحياة السياسية في ذلك الوقت، كل هذا في ظل صعوبة التنقل بين مدن مترامية الأطراف، ولا بد من الإشارة إلى نزول الشعب في مظاهرات حاشدة ضد هذا المشروع، ما يعكس حالة التفطن السياسي لعامة الناس، مع وجود قادة سياسيين ترتقي مصلحة الوطن عندهم لتحتل القمة، وتتقدم لتحتل الصدارة.

أرسل الليبيون وفداً إلى الأمم المتحدة لحضور الاجتماع الذي كان سيجري فيه التصويت على هذا المشروع، وقد استطاع الوفد الليبي بحكمته وحنكته ووطنيته الضغط من أجل مناقشة هذا المشروع على الجمعية العامة بدل عرضه على مجلس الأمن؛ تفادياً لأي فيتو يمكن أن يقع، تحدث السيد عمر فائق شنيب باسم الوفد، واستطاع الدكتور علي نور الدين العنيزي كسب موقف السيد إيميل سان لو ممثل جمهورية هايتي في الأمم المتحدة، وبسبب تصويت هذا الأخير ضد مشروع القرار سقط مشروع القرار لتكون صدمة الدول الكبرى مدوية، وبالمناسبة فقد أرسلت دولة هايتي برقية فورية أقالت فيها السيد إيميل سان لو من منصبه، كما سحبت منه جنسية بلاده بعد ذلك، بسبب موقفه العادل من القضية الليبية، هذا الموقف الذي كان مخالفاً لموقف بلاده.

وبالمناسبة أيضاً، فأنا أدعو الدولة الليبية لتكريم أبناء هذا الرجل الذي كان سبباً في إفشال هذا المشروع الاستعماري، وأدعو كذلك إلى تغيير اسم شارع هايتي إلى شارع إيميل سان لو، فالموقف البطولي كان منه وليس من بلاده، ولقد دفع ثمنه غالياً، وإن كان الملك قد عوضه خيراً حينها.

كان الصراع شديداً، بريطانيا تريد ضم ليبيا إلى النيل حيث مستعمرتها مصر، وفرنسا تريد ضمها إلى المغرب العربي حيث مستعمراتها المعروفة، وإيطاليا المنهزمة تحاول الإبقاء على طرابلس على الأقل تحت حمايتها، أما الاتحاد السوفيتي فكان يبحث له عن موطئ قدم فيها بأي طريقة، كيف لا وهي بوابة أفريقيا وخط مواجهة أمام أوروبا، هنا لم تجد الولايات المتحدة الأميركية بداً من الدفع بقوة نحو استقلال ليبيا الذي جرى التصويت عليه في الحادي والعشرين من نوفمبر 1949.

هكذا... مات مشروع «بيفن سفورزا» على أيدي رجل من جمهورية هايتي، هذا المشروع الذي كان يقضي ببقاء ليبيا تحت الوصاية الدولية، واليوم... بعد أكثر من سبعين عاماً على سقوطه، ترزح ليبيا منذ أكثر من عشر سنين تحت البند السابع لميثاق الأمم المتحدة، هذا البند الشبيه في محتواه بالانتداب، حيث يتولى مندوب من الأمم المتحدة يتلقى أوامره من الدول العظمى إدارة الشؤون السياسية والاقتصادية وغيرها في البلاد، وليس أمام الليبيين إلا السعي لنيل رضا هذا المندوب.

والآن... تتراءى فرصة كبيرة للإفلات من قبضة البند السابع، وذلك من خلال السير نحو انتخابات تخرج البلاد من الانسداد السياسي الذي تعانيه، حيث تتشكل حكومة جديدة موحدة تنقل البلاد من حالة التشظي إلى حالة التوحد والاستقرار، الأمر الذي سيفرض على الأمم المتحدة إنهاء حالة البند السابع هذه التي هي حالة من حالات الانتداب بصورة مغايرة، لكن المشكلة التي تعترض سبيل هذه الفرصة تكمن في عدم وجود السيد إيميل سان لو، ذلك الرجل الذي ضحى بمنصبه بل وبجنسيته من أجل منع فرض الوصاية على شعب لا يمت له بأي صلة، ليقول كلمته الشهيرة: «عندما تتوقف حرية شعب ما على صوتك... لا يمكنك سلبهم هذا الحق»، إن المشكلة تكمن في وجود أناس على النقيض تماماً من السيد إيميل سان لو، أناسٍ يفعلون عكس ما فعل، إنهم أناس يضحون بهذه الفرصة الثمينة من أجل بقائهم في مناصبهم، حتى ولو كلف الأمر استمرار بقاء ليبيا تحت البند السابع، حتى ولو كلفهم ذلك إعادة إنتاج مشروع بيفن سفورزا من جديد.

وا أسفاه على شعب كان يغني مفتخراً: يا بلادي... بجهادي وجلادي... ادفعي كيد الأعادي والعوادي، واسلمي... إننا نحن الفداء، فصار يردد منكسراً: يا بلادي... بعنادي وفسادي... اجلبي كيد الأعادي والعوادي... واسقمي... إننا نحن البلاء... وا ألمي ممن يقول بلسانه: إننا يا ليبيا لن نخذلك، ويقول في قلبه: إننا يا ليبيا لن ننصرك.