Atwasat

ما عاد ساعي بريد يطرق الباب

سالم العوكلي الثلاثاء 27 ديسمبر 2022, 11:02 صباحا
سالم العوكلي

لا تزخر ذاكرتي بكثير من شجون نهاية السنة واحتفالاتها، ولم أتوقف عند هذا الفاصل الزمني إلا في سني عمري الأخيرة، وأول نهاية سنة احتفلت بها كانت في الواقع نهاية الألفية الثانية أو ليلة ما قبل 1 يناير 2000. ولا يتاح لجميع البشر أو كثير منهم أن يعاصروا أو يحتفلوا ببداية ألفية أخرى في تقويم ميلاد المسيح الذي أصبح تقويما عالميا.

في سني دراستي الأولى ارتبطت لدي نهاية السنة بنهاية العام الدراسي، ودخولنا عطلة صيفية كنت أعتبرها طويلة وفق إحساسي بالزمن في تلك الفترة، ومشاعر آخر يوم في الامتحانات ثم الولوج إلى صيف زاخر بالعمل، حيث كان العام الدراسي هو زمن الاسترخاء بالنسبة لي في ذلك الوقت بسبب العمل الصيفي الشاق، حيث نهاية العام الدراسي في مايو يبدأ موسم العمل من خلال حصاد هكتارات من القمح والشعير وضمها ودَراسها، وصولا إلى تصفية الغلة وتسويقها الذي لا ينتهي إلا مع نهاية سبتمبر حيث بداية عام دراسي جديد. وهذه الأصياف القائظة والشاقة التي عشتها في الحقول بعمل مستمر يستغرق 12 ساعة يوميا، جعل علاقتي بالصيف كموسم للمرح والاصطياف والاسترخاء مرتبكة حتى الآن. لم أتعلم السباحة أبدا، وحين نكون في نزهة على البحر أقضيها جالساً بملابسي على الشاطئ ويسألني أحد ما مستغربا عن السبب، تكون إجابتي دائماً لأني لم أجد في كل فصول الصيف التي مرت بطفولتي وصباي وشبابي وقتا لتعلم السباحة حيث كنت طيلة شهوره أسبح في بحيرات من القمح المترامي الأطراف. وكأني أجيب عن هذا القصور الذي منعني من متعة السباحة بهذه الاستعارة الشعرية التي تخفي خلفها الكثير من الحرج، ولكن ليس الكثير من الندم.

كان المعلمون في ذلك الوقت يكتبون، كل حصة، أعلى السبورة التقويمين، الميلادي والهجري، وكان تركيزنا على التقويم الهجري أكثر، لأنه مرتبط باحتفالات وأعياد ننتظرها بفارغ الصبر، شهر رمضان، وعيد الفطر، والمولد النبوي، وعيد الأضحى وعاشوراء، وهي أعياد ميزتها أن تقويمها القمري المعتمد على رؤية الهلال يجعلها تمر بكل فصول السنة فنحتفل بها في الصيف والخريف والشتاء والربيع، بعكس التقويم الميلادي الشمسي الذي مواعيده ثابتة مثل الكريسماس ورأس السنة، ولذلك ارتبط الاحتفال بها في مناطق الشمال بهطول الثلج دائما، وكل كريسماس ورأس سنة لا تهطل فيه الثلوج في هذه المناطق يعتبر احتفالا ناقصا.

مع ما حدث، فيما بد، من تلاعب أو تغييرات في التأريخ المحلي، تلاشى تقريبا التقويم الهجري الذي كنا كل يوم دراسي نسجله في كراساتنا، وما عدنا نتذكره إلا مع بداية شهر رمضان ورؤية هلاله وهلال عيد الفطر، ثم ننساه حتى رمضان آخر أو عيد المولد أو الوقفة على عرفة التي سيليها عيد الذبح، وأدى هذا التلاعب بمواقيتنا الممسوس بروح انقلابية هاجسها الشذوذ السياسي إلى إلغاء التقويم الهجري من الروزنامة الليبية واستبداله أولا بعيد مولد النبي محمد الذي جعلنا متخلفين عن تقويم العالم الآخر بقرابة خمسة قرون، ثم استبدل هذا التقويم بتاريخ يبدأ من وفاة الرسول رُمِّز له ب (ور) ليُذكِّر الناس باستمرار أن النبي مات منذ أكثر من ألف عام وليبيا تبدأ تاريخا جديدا نبيه رسول الصحراء. وحاس الليبيون وجاسوا في الزمن مثلما حاسوا وجاسوا في المكان الذي كانت تتغير فضاءاته الخارجية وحدوده الإدارية الداخلية باستمرار، ومثلما ذابت خارطة الوطن في لون القومية العربية الأخضر الممتد من المحيط إلى الخليج، وذابت بعد ذلك في خارطة القارة الأفريقية السوداء، وعشنا عقودا خارج الزمان وخارج المكان لنخرج تلقائيا من التاريخ والجغرافيا.

اختفت رأس السنة الهجرية من التقويم وبقينا بلا رؤوس في أرض يحكمها رأس واحد تتحول كل خيالاته وشطحاته وهلوساته إلى قوانين ثم قرارات ملزمة، وفي الوقت نفسه غدا الاحتفال برأس السنة الميلادية التي يحتفل بها الكون كله محرماً سياسياً وأيديولوجياً ومؤثماً دينيا، وكانت الوشائج التي تربط الفكر السلفي بالفكر الجماهيري قوية لدرجة اكتظت منذ بداية الألفية الثالثة مكتباتنا بالكتب السلفية التي كانت تروق لطغاة العصر بما تدعو له من طاعة ولي الأمر طاعة عمياء حتى ولو كان يسفك الدماء.

أعود لذاكرتي التي تستعيد بقوة ليلة احتفالي برأس سنة الألفية الثالثة، دون أن أنسى في السنوات التي قبلها كروت المعايدة برأس السنة التي كانت تصلني من الصديق أحمد الفيتوري، الذي كان يقبع في بيته في الأسبوعين الأخيرين من شهر ديسمبر يصمم هذه الكروت بنفسه ويلونها ويقترح العبارات المكتوبة فيها، ويرسلها بتقنيات التوصيل المتاحة في ذلك الوقت، إما أن يتحول إلى ساعي بريد يطرق أبواب الأصدقاء في بنغازي، أو يرسلها عبر صناديق البريد للأصدقاء المنتشرين في مدن ليبيا، مواضبا على هذا التقليد الجميل لسنوات حتى توقف فجأة، وحين سألته عن السبب، قال وهو يعدل النظارة على عينيه: كان عبثاً لأني لم أجد صدى لها ولا أحد رد علي، فأحسست بالمثل الذي يقول من داريبك يا غماز الليل.

ذهبت أنا والصديق الشاعر عبدالسلام العجيلي يوم 31 ديسمبر 1999 إلى أحمد الفيتوري ببنغازي بناءً على دعوته لنا للاحتفال معه، وأذكر أننا خرجنا بداية الليل في جولة في شوارع بنغازي التي كان يبدو أن كل شيء فيها عاديا ومحايدا بخلاف شوارع العالم كله وأزقته وحتى عشوائياته التي تكتظ بالزينة والهدايا والأضواء في انتظار دقات الساعة معلنة عن بداية أول يوم في السنة الجديدة، والذي كان في تلك الليلة أول يوم في الألفية الجديدة، وبمرورنا مع شارع جمال عبدالناصر لفت نظري ملصق كبير معلق في واجهة آخر سينما في بنغازي ما زالت حتى ذلك الوقت تفتح أبوابها الخجولة بأرشيفها من الأفلام عندما انقض تجهم النظام السابق على كل أمكنة المرح بما فيها دور السينما. فيلم : THE POSTMAN ALWAYS RINGS TWICE (ساعي البريد دائما يدق مرتين) بطولة جاك نيكلسون وجيسيسكا لانغ، فتوقفت ورجعت بالسيارة وقلت لأحمد الذي أعرف أنه سيوافق على أي اقتراح في غمرة بهجته تلك الليلة، ما رأيكم أن نشاهد هذا الفيلم؟ وكنت قد شاهدته قبل سنوات عن طريق الفيديو..

عندما نشر جيمس كاين روايته الشهيرة (ساعي البريد دائما يقرع مرتين) تلقفتها الأوساط الأدبية الأميركية كعمل أدبي جريء، يستحق الإشادة في ضوء تداعيات الأفكار التحررية الجديدة التي تغزو العقول ويستجيب لها السلوك في النصف الأول من القرن الماضي· وبقيت الإشادة على حالها، إلى أن تحول الكتاب إلى عمل سينمائي في العام 1946 من بطولة لانا تيرنر وجون جارفيلد، فتعرض الفيلم لهجوم واسع من قوى تقليدية في المجتمع الأميركي وجدت في جرأة التعرض لحياة الناس العادية بتفصيلاتها المطوية أو المخبأة اجتراء على المجتمع نفسه، فنال مقص الرقيب من الفيلم بقسوة ظلت علامة في السينما الأميركية· لكن موجة الرفض هذه، تحولت في العام 1981 إلى ترحيب حار، نقدي وجماهيري، بنسخة ثانية من الفيلم من بطولة جاك نيكلسون وجيسيكا لانج، تنتمي لما يسمى (neo-noir السينما المظلمة الجديدة) يروي الفيلم حكاية زوجة شابة جميلة تعمل مع زوجها العجوز ــ فقير الخيال من أصول يونانية ــ في محطة ومطعم على الطريق العام في مكان معزول، ويمر بهما شاب متسكع، فتي وجذاب، ليعمل في محل إصلاح الإطارات، فيثير في الزوجة رغبات وخيالات جامحة تعيشها مع هذا الغريب، لينتهي الشغف بقتل الزوج·

لم يفت على احتفالنا ببداية الألفية الثالثة عامان حتى جرت أحداث الحادي عشر من سبتمبر في منهاتن، وكنت في الإسكندرية مع بعض الأصدقاء برفقة أحمد الفيتوري، حيث قضى مساء العاشر من سبتمبر 2001 رفقة الصديق خالد ترجمان في شقته، وفي اليوم التالي، بعد الظهر، رن الهاتف الأرضي في شقتنا بحي مصطفى كامل، رفعت السماعة فكان أحمد يقول لي افتح التلفزيون بسرعة، وحين فتحته كان المشهد الذي لا يُنسى، وهو الحدث الذي رافق تفاصيل إسكندرانية أخرى جعلتني أشرع في كتابة رواية اللحية التي أجلتها طويلا: «دخان غزير يتصاعد من برجين عاليين وعلى الشريط الأحمر أسفل الشاشة خبر عاجل: طائرات مدنية تقتحم برجي التجارة في نيويورك، ينهار أحد الأبراج فجأة فيلقي بحمم رماده في شوارع منهاتن وراء أناس يركضون وليس في ذاكرتهم سوى مشاهد السينما المظلمة التي كانت تشبع خيالهم بالفاجعة الرمزية، واثقين أن مثل هذا الكابوس لا يحدث إلا في تقنيات هوليوود، وكان المصورون رغم الخوف يبذلون كل إمكاناتهم لاصطياد الصور المعبرة. كل شيء يشتعل لكن الكاميرات الباردة وحدها تتنقل بمتعة فنية أمام عيون تدربت جيداً على اقتناص المآسي والفوز بأفضل اللقطات من قلب الحرائق والدموع.. إنهم يعرفون جيداً أن هذا الخطب سينتهي ويكون جزءاً من الذاكرة، وأن صورهم ستحل محل الفاجعة بهالتها الفنية التي تعمل ضمن مبدأ اللاتكرار في عالم يعتقد جازماً أنه يمضي قدماً>> لن أقول العبارة الدارجة التي تظل مجرد عبارة تقال (كل عام وأنتم بخير) ولكن أقول: عيشوا عامكم الجديد كما ينبغي دون أن تضيعوا أي فرصة للمرح والسعادة، فالحظ ساعي بريد لا يطرق الباب كثيرا.