Atwasat

الديك

رافد علي الخميس 22 ديسمبر 2022, 02:09 مساء
رافد علي

انتهى الأمر بفريق فرنسا، الملقب بـ «الديوك»، بالمرتبة الثانية في نهائي كأس العالم بقطر، الذي كان احتفالية غزيرة بالجدل على أصعدة الثقافة والحضارة والسياسة، مما جعله مناسبة دولية مختلفة نوعياً عن سواها في كل شيء، إلا أنه، رياضياً، كرس احتكار البطولة فيه بين المدرستين الأوروبية والجنوب أميركية في عالم كورة القدم.

فريق الديوك كان غائباً تماماً في الشوط الأول من مباراة النهائي ومثقلا بهدفين، إلا أنه أعلن عن استفاقة متأخرة، تخالف طبيعة أي ديك لاستدراك الأشياء من حوله.

الديك رمز تتبناه الفدرالية الفرنسية لكرة القدم شعاراً لها، كانعكاس لإرث فرنسي لقبائل الجلوا التي كانت ترفع لواء المقاومة ضد الإمبراطورية الرومانية في فرنسا بتلك العصور، واستمر الديك بحضوره رمزاً للملكية الفرنسية عبر جمعية الملكية بالقرن السادس عشر، ونقش على النقد المعدني الفرنسي قبل الثورة الفرنسية، وظهر الديك على أختام الدولة في عهد الجمهورية الثانية 1848-1852 ضمن مسيرة تراكمية في تاريخ بلد، ووجدان شعب حتى يومنا هذا.

من ضمن المآثر المتعلقة بالديك بفرنسا المعاصرة قضية قانونية رفعها زوجان باريسيان على ديك يسمى موريس في جزيرة أوليرون بالأطلسي، منذ سنوات قليلة ماضية بتهمة الإزعاج بسبب صياحه اليومي المبكر، إلا أن القاضي، في آخر الأمر، حكم لصالح الديك، وألزم المدعيين بنفقات الدعوة، وتعويض مادي متواضع لصاحبة الديك. واعتبر القاضي في حكمه أن الديك وصياحه الصباحي جزء من حياة الريف بالمنطقة، وعلى الوافد الإذعان لذلك. بل إن عميد البلدة، كريستوفر سوبور، صرح لـ «فرانس برس» حينها بأن الدعوة ضد الديك موريس «قمة عدم التسامح مع التقاليد المحلية»، في حين طالبت مجموعة التضامن مع الديك موريس، وعلى رأسهم برونو دو سيكجور، عميد في بلدة مجاورة، طالبوا بضم صياح الديك وخوار الماشية وأجراس الكنائس للإرث الوطني في الجمهورية الفرنسية الخامسة لحمايتها من هكذا شكاوى تتعدى على نمط الحياة الريفية ورموزها المعروفة.

نال الديك موريس شهرة واسعة بفرنسا جراء التغطية الإعلامية للدعوة والتجاذبات العامة حولها، بل صار الديك أحد معالم تلك البلدة الصغيرة وأحد مزاراتها، بعد أن حاز تعاطفاً كاسحاً من قبل الناس العاشقة للحيوانات الأليفة، علاوة على نيله دعم جمعيات حقوق الإنسان، التي كانت ترفع شعار «دع موريس يصيح» كرد على «عنجهيات الباريسي الوافد بماديته المجردة للريف بعد التقاعد» هرباً من المدينة والضجيج مثقلاً بقيم حداثية تتعالى على التقاليد والموروثات.

حيثيات الخصومة مع موريس، كرمز شعبي في وطن، له قيمته المعنوية بالحياة الريفية، تشابكت جميعها مع فكرة الاتجاهات النقدية التي ترفض الصيغ الكلاسيكية لمفهوم الرمز، وهي الفكرة التي يقف عندها الكثير من الكُتاب اليوم، باعتبار أن الرمز، كموريس، حالة معقدة، وأن مساراته الفكرية أمر في غاية العناء، رغم أن الرمز لأي مجتمع متوافق مع ذاته، سيشيد لنفسه خصيصاً منصة معنوية مهمة لقيمه في عالم الأشياء. فالمسافة بين الظاهر والمحجوب فى الرمز هي ما يجعل عملية التأويل ضرورية، ضمن رحلة السؤال والشك والبحث وصولاً لخلاصة مبرهنة، بغض النظر عن إجماعنا حولها من عدمه، إذ المهم هو السؤال والشك ضمن تجريدية مفتوحة للرمز، تطرح بهدوء، ولا تسعى لتغيير قناعات فورية. وهي القناعات التي نفتقر إليها للأسف، لأن الرمز لدينا ملتصق، بشكل كبير، بالمقدس فى معظم الأحيان، رغم مبالغتنا الشديدة في هذا التمازج في أحيان كثيرة.

بعيداً عن تعقيد الأحوال في قضية موريس وحكايتها، يظل الرمز، بشكل مبسط، محتفظاً بعلاقته بالعلامة، فالعلامة هي الموضوع، والرمز هو دلالات الإشارة ومعانيها، ومن هنا تأتي إشكالية الإجماع على الرمز اجتماعياً بعيداً عن حالة الغوص في عامل التراكم الثقافي بوسط منسجم ومتوافق.

مهما يكن من خسارة الديوك، أو فريق الزرق، أمام الأرجنتين؛ فإن قيام المنافسة العالمية في قطر قد خلق رمزية عربية صريحة تجاه فلسطين، رغم اختراقات التطبيع بالمرحلة الإقليمية الحرجة التي نعايش، كما ظهر رمز لتلاحم عربي ساند الفريق المغربي حتى آخر لحظات مشاركته في البطولة، رغم إشكاليات الهوية مغاربياً على الأقل، ورغماً عن حالة التردي الرسمي العربي وعجزه السياسي المفضوح أمام قضايانا العصرية الملحة. أمام هذه الرمزية الناتجة على هامش فعاليات مونديال قطر، حق لنا أن نسأل هل سنصنع شيئاً من كل الرمزيات؟! أم أنها مجرد طفرة عاطفية لشعوب مزاجية وشارع عربي عاطفي وإنسان مقهور؟! وهل سيأتي وقت يصيح فيه ديك فى مسامع أجيالنا الهائمة على وجوهها بلا هدف؟!، صيحة تحرك نخبنا التي لم تفلح إلا في الوقوع بمصيدة التسلل.

مات الزمان، والأرض أصبحت قبر
وأطل عيني على المدى ... آه يا ولدي»