Atwasat

استقلال.. لن يتكرر (1)

سالم الكبتي الأربعاء 21 ديسمبر 2022, 11:28 صباحا
سالم الكبتي

كلمات في الموسم الحادي والسبعين

عندما أعلنت ليبيا استقلالها عشية عيد الميلاد في 24 ديسمبر 1951 كشف ذلك اليوم الواقع المنظور فوق الأرض. جملة من التفاصيل المحزنة إلى حد كبير: التخلف والفقر وعواقب سنوات الحرب التي مضت وخوف الإنسان الليبي من المستقبل الذي ينتظره مع نهوض حلمه بتحقيق الأمل في الحياة.

رغم ذلك الخوف الذي كاد يلامسه يأس مريع  ثمة عوامل عديدة صاحبت إعلان الاستقلال.. عوامل في مجملها لا تتيح لدولة القيام من الركام: لا إمكانيات.. لابنية تحتية.. لاشبكة مواصلات.. لاتعليم بالمعنى الكبير.. لاصحة.. لا خدمات.. هذا هو الواقع الذي انجلى واضحا عن بلاد واسعة يمتد شاطؤها طويلا وتغرق صحراؤها في البعد وتنمو في بيوتها الحكايات والأساطير والأحلام عبر المسافات.

واقع حساس تواجدت فيه قوات أجنبية وظلت بعد أعوام الحرب العالمية الثانية بالأراضي الليبية بحكم ظروف تلك الحرب ورغما عن إرادة الليبيين جميعا ونتج عن هذا كله أن تلك القوات أصبحت تشكل إدارتين عسكريتين منفردتين عن بعضهما تديران شؤون أقاليم الوطن الثلاثة..

وحينها لم يعتبر ذلك التواجد - و في كل الأحوال- (احتلالا) بالمعنى الذي يؤدي إلى مفهوم الخيانة أو العمالة أو الجرم المشهود، بقدر ما كان يعد وجودا ضروريا لتوازنات وتحالفات جديدة بدأت تطرأ وتشكل مناطق النفوذ في عالم جديد صحا سكانه عليه من ظلام الحرب وشربوا القهوة وهم يتطلعون إلى ماوراء الشمس.

ظل الليبيون، رغم وعيهم  بهذا التواجد الأجنبي المفروض على أرض الواقع، يشعرون أن هذا التواجد كان ضرورة وسبيلا إلى طرق تمتد في اتجاهات لا يستطيعون الوقوف وسطها تلك الأيام. وهذا (التواجد الضرورة) أسهم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في حل المشاكل والأزمات وتوطين الإدارة والنظام وفتح فرصا في التعليم والصحة والمساعدات الأخرى وكان طبيعيا جدا، من منظور ثان، أن يدير أو يشارك هذا التواجد الذي أقره العالم وتوافق عليه ورضت به كل الأطراف.. أمور السياسة في ليبيا ولو من وراء ستار.

كان هذا واقعا أصيلا رغم قصائد الشعر وخطب النثر فرضته الحرب والقوة والاتفاقات وبات أمرا لامناص منه اتساقا مع رؤى وتوجهات تلك الأعوام التي دخلت طيف التاريخ وصفحاته على وجه السلب أو الأيجاب.

ثم في رؤية موازية أخرى: في عشية الاستقلال الذي أعلن بصوت هادئ.. تبدى الواقع المحلي عن أقاليم ثلاثة متباعدة محفوفة بالمخاطر وسط التجربة الجديدة التي هي (الاستقلال وما بعده) وتبدى ذلك أيضا عن واقع آخر مجاور أو بعيد يتصل بالمنطقة المحاذية لليبيا.

أمامها البحر الطويل وهو منطقة حضارات وصراع وتواصل وعبور وخطوط تجارة وملاحة دولية وربط مستمر مع دنيا أخرى هي أوروبا التي شرعت في معالجة جراحها وبناء خرائبها وتعويض ما فقدته في أيام الحرب المحزنة.

فيما تلاصقها من الشرق مصر.. المملكة التي يتوارث عرشها أبناء محمد علي الكبير صاحب النهضة المعروفة منذ سنوات موغلة في القدم. مملكة تحفل إلى قمة رأسها بالأحزاب والصحف وأصوات المعارضة والهتافات بالاستقلال التام ويتواجد النفوذ البريطاني الذي ظلت لا تغيب عنه الشمس بقواته في ثكنات قصر النيل والإسماعيلية ومناطق القنال.

المملكة التي قامت بإيواء واستقبال آلاف الليبيين في هجرات ماضية عديدة.

وفي الجنوب الشرقي يقبع السودان الذي يلتقي فيه النيلان ويتواجد به أيضا احتلال أجنبي من الإنجليز ويؤلم شماله ما يحدث في جنوبه البعيد إضافة إلى وجود مصري منذ أعوام خلت في القرن الذي سلف.

وفي الخلف عند تخوم الصحراء المحرقة تتواجد بعد مرتفعات تيبستي وتاسيلي حيث خط الإنسان الليبي القديم على جدرانهما أول رسوماته وكتاباته.. تشاد والنيجر.. وفيهما فرنسا باحتلالها.. وماوراء الصحراء حيث الرمال ومراتع الخوف والمجهول تقبع دول عديدة ماتزال بدون استقلال وتعاني من الاحتلال وعقدة الرجل الأبيض المتفوق.

كان هناك صراع واضح فوق الرمال وليس تحتها.. صراع يقوم بكل صلف وعناد على ابتزاز الإنسان الأسود وإهانة كرامته والتسلط عليه.

وفي الجوار الغربي الملاصق يتبدى باقي المغرب الكبير.. مملكة أخرى يتوارثها البايات الحسينيون في تونس في ظل حماية فرنسية خالصة وواضحة أيضا. ثم الجزائر والمغرب البعيد.  فرنسا أيضا لاتفارق هذه المواقع.

وشعوبها تأمل أن تنتصر وتتحرر. وفي الشرق.. هناك: العراق مملكة أيضا منذ العشرينيات يتواجد فيها الإنجليز في الحبانية وبغداد والبصرة والرمادي. وهناك أيضا الأردن الذي أصبح مملكة بعد أن كان مجرد إمارة يشهد دورا بريطانيا قويا يمثل أمام الأبصار في معسكرات الزرقاء وقواعد المفرق وغيرهما. وعبر النهر في الضفة الغربية..

هناك فلسطين، وتلك حكاية أخرى. ثم جنوب اليمن وفيه بريطانيا أيضا وفي المشيخات والمحميات على وجه العموم. وجود متغلغل يمسك بالمصالح الحيوية عبر المضائق والممرات وقناة السويس!

واقع محلي لا ينفصم عن الواقع المجاور وكلاهما يرسفان في أغلال التخلف ومحاولات النهوض من الكبوة. وهذا يعني، برؤية معاصرة، أن ليبيا لم تكن استثناء وحدها في التواجد الأجنبي المضروب على المنطقة سواء بالوجود المسبق عن طريق الاحتلال بالقوة أو الاتفاقات والمعاهدات المشروطة.

الحال كله واحد في مجمله وإن اختلفت التفاصيل وتوزيع الاتهامات هنا.. أو هناك!

كان هذا الحال، باختصار، واقعا حقيقيا على الأرض عندما أعلن استقلال ليبيا في منتصف القرن العشرين والعالم ينصرف لوداعه تاركا أحزانه القديمة ويستقبل نصفا آخر من الأعوام الباقية ستفضي به إلى قرن جديد. كان النفوذ البريطاني لم يزل قويا. كانت بريطانيا هي صاحبة المنطقة وتملك أدق المعلومات والأسرار عنها منذ ما قبل سايكس- بيكو.

وربما بدأ هذا النفوذ الصريح يصل إلى انكماش أو اختفاء مع المنتصف الذي حل من الأعوام بظهور الرجل الأمريكي القادم بقبعته إلى المنطقة بصورة أخرى.. استلم الدور وامتلك المعلومات والأسرار وحصل على المزيد منها واستغل الصورة التي أبانت عنه  صاحبا للمساعدات الإنسانية وبرامج التأهيل والتدريب والنقطة الرابعة والمصالح المشتركة ومشروع مارشال وأفلام هوليوود ومضيف الأمم المتحدة.. وغير ذلك.

كان الأمر خلال ذلك كله يلوح عسيرا للغاية عبر هذا المشهد القديم وأطيافه الذي شرع يتوارى وينسحب.. والمشهد الجديد الذي أقبل فاتحا ذراعيه بقوة. مشهد غريب ومتناقض يبدو على الخريطة بين دول العالم وعلى الواقع المنظور كل لحظة.. دولة فقيرة ومحتاجة ومرهقة، هي ليبيا، تولد بصعوبة وسط الصخور.. وسط هذا الظرف المتخلف ووسط هذه المنطقة ذات الرمال المتقلبة التي شرع يشدها الحنين إلى العروبة والهتاف بالوحدة والمصير الواحد من خلال بساط الريح وفريد الأطرش!.

عقب الاستقلال بفترة قصيرة  بدأت الهزات. ثمة زلازل تتحرك حولنا وتتسع. تغيرات عنيفة بجوارنا. وصل شباب العسكر العربي للسلطة. كاريزما قادمة أبهرت الكثير. انطلاق خطاب جديد ودعوات جديدة ومظاهر جديدة ومفاهيم جديدة تختلف عن سابقاتها. خلال هذه التغيرات الوافدة بدأت صورة الاستقلال الذي أعلن بصوت هادئ في التلاشي والغياب.

لم يعد الاستقلال حلما كما كان. التضحيات القديمة لم توازِ، على مايبدو، ثمن الاستقلال.غدت المحافظة عليه أصعب من نيله. بدأ الليبيون يتململون. انطلقت حملات التشكيك في هذا الحلم من أساسه.

مراحل أخرى لاحت أمام الأنظار حقيقة ساطعة تنبئ عن واقع أقبل بقوة يرسخ أقدامه وضاعت فيه معاني وقيم ذلك الاستقلال متزامنة مع إهمال التاريخ وحصول الاتهام والتشويه. ليبيا (المستقلة).. بدت تلوح أيضا من على القرب وكأنها دون حرية أواستقلال!!