Atwasat

سبعون

جمعة بوكليب الأربعاء 21 ديسمبر 2022, 11:23 صباحا
جمعة بوكليب

مثلان. الأول منهما إنجليزي، يحث على عدم الالتفات إلى الوراء بغضب (Don’t look back in    anger).  والمثل الثاني ليبي، يؤكد على عدم التوقف، ومواصلة المشوار للأمام: «إلوي واشبح لقدام».

المثلان ينضحان بحكمة مستوحاة من الخبرة والتجارب الحياتية. إذ ما الجدوى في الالتفات إلى الخلف بندم أو غضب على ما ضاع من فرص؟

الفرص الضائعة والمهدورة، لن تعود. وأفضل من ذلك، العمل بما ينصح به المثل الشعبي الليبي: «إلوِي واشبح لقدام».

المثلان، في رأيي الشخصي، لا يتناسبان مع كل الفئات العمرية. هناك فئة من البشر، وصل أصحابها إلى درجة معينة في سلم العمر، ولم يعد يسترعي اهتمامهم الالتفات إلى الوراء ندماً أو غضباً، أو تطلعا إلى أمام بلا مفاجآت مسرة. وكل ما يهمهم هو كيف يمكنهم التعايش مع تقلبات زمنهم الحاضر، ومحاولة الاستمتاع بالقليل المتاح من أطايبه، إن استطاعوا إليها سبيلاً. وإن تمكنوا، تفادي ما قد يطالهم من قذارة أوحاله، وما قد تسببه لهم من متاعب وأوجاع.

تذكرت المثلين أعلاه هذه الأيام، لدى وصولي أخيراً الدرجة السبعين في سُلم العمر. وأحمد الله أني وصلتها سالماً، عقلياً وبدنياً، إن صح تشخيصي! وأعترف أن بلوغي السبعين، أو الثمانين، أو حتى المئة من العمر، لم يعد الآن يعنيني كثيراً.

الأفراخ الصغيرة كبرت، ورحلت محلقة بعيداً، بحثاً عن سموات أخرى أبهى وأجمل، وأكثر زرقة، وأفسح حرية. والعمل ودوامه وصداعه وشكاواه ومباهجه القليلة إن توفرت، انتهى منذ سنين مضت، باستلامي رسالة رسمية، صيغت بلغة بيروقراطية متخشبة، تعلمني بإحالتي على رف التقاعد، لأنضم إلى غيري ممن مضغهم الزمن.

والحدائق والبساتين التي عرفتها وعرفتني، ما زالت، مثلي، تدور، في نفس المكان، مع دوران الفصول بلا اكتراث.

والورود والزهور، التي أحببت ألوانها وروائحها، وقطفت بعضها، فقدت منذ زمن أريجها وغوايتها. ومثلي، ثقلت بأعباء الحياة، وانشغلت بهموم الدنيا، ولم يعد لديها وقت حتى لنظرة خاطفة مطمئنة في مرآة جانبية بالبيت أو خارجه.
هل أبدو عجوزاً متبرماً ضجراً؟

الغريب أنني لم أرث التبرم عن أبي. أبي كان كائناً معجوناً من الصمت والصبر، حين أحيل على التقاعد تغيَّر، وأضحى «لا يهش ولا ينش». يدخن السجائر بنهم، ويراقب العالم من حوله بلا مبالاة.

وحين خيَّره الأطباء بين الاستمرار في التدخين أو الموت، رضخ صابراً مستسلماً للأمر الواقع، واكتفى بالصمت أنيساً، إلى أن وافته المنية، وهو جالس على نفس الأريكة، في نفس المكان من البيت. ولم أرث الضجر عن أمي. أمي كانت لا تكف عن الحركة والكلام.

منذ أن تفتح عينيها في الصباح إلى أن تأوي إلى فراشها ليلاً. وكنت أظن أنها، حتى في ساعات نومها القليلة، لا تتوقف عن الحركة والكلام. ثم، فجأة، فقدت القدرة على الحركة. وقبلت مكرهة البقاء، شبه حية، في سرير طبي، في زاوية بغرفة من غرف البيت. لكنها لم تنس الكلام. وحين، أخيراً، سقط لسانها في حلقها، وانقطع الخيط الذي كان يشدها إلى دنيانا، سقطت في بئر عميقة ومعتمة، ولم تعد إلينا.

لذلك أستغرب جداً من تبرمي وضجري، وأتساءل كثيراً من أي الطرق يا تُرى وصلا إليَّ، ومن كان الدليل والمرشد؟.

الالتفات إلى الخلف، في السنوات الأخيرة من رحلة الحياة، وبسبب توفر الوقت، وخلوه من الغضب، يصير أكثر غواية وإثارة وتشويقاً من التطلع إلى الأمام. ولا يجعلك تشعر برعدة خوف، كما يحدث لك، كلما عنّ لك التفكير فيما سيحدث لك في قادم الأيام. إذ علام العجلة للوصول إلى محطة أخيرة معروفة؟ أليس من الأجدى التوقف عن «اللوي» وترك أمره للأصغر سناً؟