Atwasat

البطولة «الحلال»

سالم العوكلي الثلاثاء 20 ديسمبر 2022, 12:51 مساء
سالم العوكلي

انتهت نسخة كأس العالم لكرة القدم التي أقيمت في دولة قطر بنجاح كبير فيما يخص التنظيم والإدارة، وكثيرون أشادوا بالعمل اللوجستي الكبير خلف هذا النجاح، وكثيرون أيضا انتقدوا ما تسرب إلى هذه النسخة من خطابات دينية وعرقية مغالية، ووصف البعض هذه الشجون الشوفينية بكونها محاولة لأسلمة هذه الدورة من كأس العالم لكرة القدم، وهذا وصف لا يخلو من حقيقة تعززه خلفيات تاريخية وثقافية وحتى سيكولوجية، والأمر لا يتعلق بمكان البطولة أو زمنها، ولكن بتكوين عقل عربي إسلامي «مع التحفظ على الوصف التعميمي» يعاني من عقدة نقص حيال ما يحدث في العالم من تطور على جميع الأصعدة، فلو أقيمت هذه البطولة في أي دولة عربية أخرى لصاحبها الخطاب الشوفيني المتشفي نفسه.

ولتحولت بطولة هدفها أن تكون عابرة للأعراق وللأديان والمذاهب، إلى حملة دعائية لعرق ودين وإقليم، قادر على مضاهاة الأمم الكبرى في تنظيم أكبر البطولات الرياضية بعد الألعاب الأولمبية. ورغم أن معظم البنى التحتية وإدارة المحفل وغيرها تقوم به شركات وخبرات غير عربية وغير إسلامية.

فإن امتلاك الأرض التي يقيم عليها العالم محفله يبدو أنه كاف لهذا المجد، وعلى تأجيج نشوة الولوج إلى العصر من أبواب كرة القدم المستطيلة، فكل الهزائم التي لاحقتنا منذ الخروج من الأندلس وحتى الآن تضغط على عقولنا بشكل نعتبر فيه إحراز هدف في مرمى الخصم انتصارا قوميا أو دينيا، ولعل ما أحاط بهذه الأمة في عقود سابقة من تبجيل للملاكم كلاي الذي اعتنق الإسلام وأصبح يطيح بخصومه النصارى تباعا، يعكس الولع بالتعطش لأي انتصار يرد لنا بعض كبريائنا ولو كان في حلبة.

حاولت أن أفصل متعتي بكرة القدم عن كل ما يشوش عليها من أشجان قومية ومن ردود أفعال حادة تنتقد هذا الاختزال لمحفل عالمي في بعده الضيق، إلا أن هذا الخطاب المتعصب الذي يجتاح حتى لغة المعلق على المباراة كان يكدر علي المتابعة لأوركسترا يعزفها العالم أجمع، فنزحت إلى قنوات معلقوها أجانب لا أفهم لغتهم، مستلهما تشكيلة فريق مثل المنتخب الفرنسي الذي لعب مباراته النهائية بعشرة لاعبين سود من أصل أفريقي، ومثلما يضم المنتخب المغربي مهاجرين لا يتحدثون في المقابلات سوى بالفرنسية، ووقفت مليا أمام إدراح االشاعر، عمر الكدي، الذي يقول فيه معلقاً على فوز فرنسا على المغرب: «أبناء المهاجرين يفوزون على أبناء المهاجرين>>.

يقول محلل كروي في قناة البي إن سبورت ماكس: الحمد لله الذي سخّر لنا هذا وجعل كأس العالم يقام على أرض إسلامية، ويقول إعلامي آخر: هذه أول بطولة «حلال» في تاريخ كأس العالم. وينتشر رأي في مواقع التواصل بكون السعودية فازت على الأرجنتين لأنها أرض الكعبة، بينما لا يخلو التعليق على المباراة من أدعية تتوجه إلى الله كي يثبت أقدام اللاعبين المسلمين ويسدد رميهم، ويحمي شِباكهم من شر الأهداف الصليبية ما ظهر منها وما بطن، أو بهذا المعنى.

ويتناغم اللاعبون مع هذا الوجد عبر قراءة سورة الفاتحة قبل الدخول إلى الملعب، والسجود على العشب بعد إحراز هدف، ولن أخفي أني أحيانا تمنيت للفريق المسلم الذي يصاحبه هذا الخطاب أن يخسر أو يخرج من التصفيات حتى لا تروج أوهام الاتكالية على حساب الجهد والتدبير الفكري، ومن أجل أن يتحسس المنطق طريقه إلى عقل ما زال على قيد الخرافة.

والحديث السابق عن عقل عربي وإسلامي لن يبعدنا عن مظاهر مماثلة لدى الفرق القادمة من أعتى الديمقراطيات «العلمانية»، فهم أيضا لهم إلههم المؤيد، ولاعبوها يرسمون إشارة الصليب على صدورهم قبل الدخول إلى الملعب أو عند الاستبدال، وبايدون يرسم صليبا أسفل عنقه، ويُصرِّح، حين ابلغوه بفوز أمريكا على إيران: إن الله يحبهم. يقصد لاعبي منتخب الولايات المتحدة.

وللأسف يظل الصراع على احتكار الله قائما كما في ساحات الحروب والملاعب والصراعات السياسية، بينما الخالق زود الإنسان بجهاز ذكي في جمجمته ليخطط ويبتكر كي يتقن ويبدع، وتحولت كرة القدم إلى علم تنتشر أكاديمياته في كل القارات، وهذا الفارق في النظرة إلى اللعبة كعلم هو ما يجعل المفاجآت الطارئة تحدث، لكن في النهاية لن تصل للمربع الذهبي إلا الفرق التي استخدمت بجدارة هذا الجهاز الذكي الذي وزِع بعدل على جميع أجناس ومذاهب وأعراق البشر.

«حرام» لكرة القدم أقيمت قبل هذه البطولة، لم نسمع حسب علمي بمعلق أو محلل يقول إن ميزة هذه الدورة تكمن في كونها تقوم على أرض مسيحية أو بوذية أو سيخية، ولم نسمع عن دورة افتتحت بآيات من الإنجيل أو من الدامابادا، كتاب بوذا المقدس، أو طبقت فيها شريعة الدين الذي أقيمت في دولته.

كان نجاح دورة قطر باهراً على مستوى البنى التحتية والإدارة، لكننا للأسف كثيرا ما نشوش على نجاحاتنا بمثل هذه الخطابات العنصرية التي تضرب الروح الرياضية في مقتل، فهذا التنافس الرمزي بين الأمم بديلٌ للحروب والصراعات الدموية، أو للحكم على المنافس وفق عرقه أو مذهبه، لكن الاتحاد الدولي لكرة القدم «الفيفا» يتحمل جزءا من إنتاج هذا الخطاب حين ذهب في بعض الإجراءات إلى تسييس كرة القدم وضمها إلى حزم العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة على من لا يطيعها، ولعل الاستبعاد السياسي للفريق الروسي من التصفيات الأولى لهذه البطولة ضمن هذه العقوبات يؤكد أن الرياضة عموماً بدأت تتلوث بأوراق السياسة.

لعل البعض يرى أن الإبعاد السياسي لروسيا من هذا المونديال عقوبةٌ لها بُعدٌ إنساني يتعلق بغزوها لأوكرانيا، ورغم التعقيد الأخلاقي الذي يقف وراء هذه الحرب، إلا أن العقوبة تستدرج أسئلة أخرى إنسانية: لماذا لم تُستبعد الولايات المتحدة من دورات لكأس العالم عندما كانت تلقى ملايين الأطنان من القنابل وتحرق قرى كاملة بسكانها في كوريا وفيتنام ولاوس التي تبعد عن شواطئها آلاف الكيلومترات؟ أو عندما كانت تحتل أفغانستان وتقصف مواكب الأعراس فيها طيلة خمسة كؤوس عالم، أو عندما احتلت العراق وأعادتها مئات السنين إلى الخلف.

ستظل حتى إشعار آخر أسئلةً وكفى لا نتوقع إجابة عنها طالما القوة هي القانون الدولي الفعلي.

من جانب آخر، فهذه الدورة التي أقيمت في الشتاء لأول مرة، تحسبا لظروف مناخية، ولأن شتاء قطر مثل صيف أوربا، ونادرا ما تسقط فيه الأمطار، فإن إطلالة «قوس قزح» من مكان غير منظور كشعار لمجموعة بشرية ما زال العالم ينقسم أخلاقيا حيالها، أثار ضجيجا شوش على المحفل، ما جعل البعض يعتبر خروج ألمانيا من تصفيات المجموعات عقابا إلهياً.

ومن جديد تُقحم هذه اللعبة الجميلة في إشكاليات معقدة ما زالت قيد الجدل، وكلٌ يحاول الترويج لبضاعته الكاسدة عبر هذا الملتقى المرح الذي يستقطب انتباه الدنيا، والخاسر دائما هو العاشق لهذه الأوركسترا التي يعزفها العالم كل أربع سنوات، والتي ننتظرها كبراح للتنافس بين رايات الأمم بعيدا عن الصراعات الدموية التي تنتشر فوق الأرض تحركها المصالح والمذاهب والقوميات المتناحرة، وبعيدا عن حزم العقوبات التي تدفع أثمانها شعوب لا دخل لها.

ولمواجهة هذا التسييس تمنيت من منظمي البطولة في قطر أن يقيموا على هامش هذه البطولة أنشطة فكرية وثقافية وفنية تواجه هذا الخطاب المستبد بالرياضة كأداة لتعزيز الصداقة بين الأمم، وكان تصوري نابعا من مقالة سابقة نشرتها عن علاقة الأدباء والفنانين بهذه اللعبة، فتمنيت لو أن اللجنة المنظمة دعت عددا من الأدباء والمفكرين الذين كتبوا عن كرة القدم بشغف، والموسيقيين الذي ألفوا أو لحنوا أنغامها، والرسامين الذي أنجزوا لوحات مستلهمة منها.

وأتاحوا لهم براحا لعرض أفكارهم وكتاباتهم ولوحاتهم وموسيقاهم على هامش هذا المحفل، وأقاموا بعض الندوات الفكرية والورش والمعارض الفنية التي تواجه مثل هذه الخطابات العنصرية التي تشوش على جمال اللعبة وروحها الأصيلة.

تحكم الطقس في موعد هذه الدورة، أما طقسي الخاص؛ الذي لا علاقة له بصيف أو شتاء، مع كأس العالم فقد تحكمت فيه ظروف أخرى كادت تحول بيني وبين المتابعة، حيث كلف اشتراكي في باقة كأس العالم في شبكة البي إن سبورت 1250 ديناراً، ولأن هذا المبلغ سيضيع هباء مع الانقطاع المتكرر للكهرباء دعمته بشراء مولد كهربائي بـ1500 دينار، ما مجموعه 2750 دينارا تعادل دخلي في ثلاثة شهور، وبقسمة هذا المبلغ على عدد المباريات المتاح لي متابعتها، فستعادل تذكرة حضوري لكل مباراة على الشاشة 52 ديناراً. ورغم وجود اشتراكات التفافية على الحقوق الحصرية لشبكة البي إن سبورت أرخص بكثير، فضلت دفع أضعاف المبلغ لأن الاشتراكات الرخيصة مرتبطة بتقنيات القرصنة والاختلاس، وأنا أردت لفرجتي أن تكو حلالا تناغما مع البطولة «الحلال».

قد يقول أحد ما هذا نوع من البطر، ولكن ماذا أفعل وهذا الشغف يجعلني أقيس ما تبقى من العمر بعدد دورات كأس العالم التي سأحضرها، ووفق أوضاعي الصحية ومتوسط العمر في بلدي، أقدرها بأربع دورات أخرى في ظروف العيش المنطقية، إن نجوت من سكتة قلبية، أو جلطة، أو رصاصة طائشة، أو صعقة كهربائية من مضخة المياه، أو فيروس متحور جديد، أو الاصطدام بمطب أسمنتي ضخم.

مبروك للأرجنتين، وإلى لقاء بعد أربع سنوات في الجانب الغربي من الدنيا، وأتمنى ألا تسيطر عليه أفكار ومعتقدات اليمين الغربي الأبيض وتعصبه.