Atwasat

جدلية الموت والحب

إبراهيم حميدان الإثنين 19 ديسمبر 2022, 02:15 مساء
إبراهيم حميدان

(الموت عمل شاق)

رواية للروائي السوري خالد خليفة، صدرت عن دار العين في 2016، تحكي قصة المأساة السورية خلال السنوات الأربع الأولى للثورة التي بدأت انتفاضة سلمية حين خرجت قطاعات من الشعب السوري تطالب بالحرية عقب عقود من الاستبداد، فتعاملت معها السلطة بأقصى ما تملك من العنف المسلح، لكن صاحب روايتي (لا سكاكين في المطبخ) و(مديح الكراهية) يأخذنا بعيدا عن المشهدين السياسي والعسكري في سورية حين يجعل الحكاية المحورية لروايته رحلة جثمان أب سوري من دمشق إلى قريته العنابية، ينقلها في ميكروباص أبناؤه الثلاثة، بلبل وحسين وشقيقتهما فاطمة، إذ يوصي الأب عبداللطيف السالم، وهو على فراش الموت ابنه الأربعيني بلبل أن يدفنه في مقبرة العنابية، إلى جانب قبر أخته ليلى التي ماتت منذ أربعين عاما بعد أن أضرمت النار في جسدها ليلة عرسها، احتجاجا على تزويجها من قبل أسرتها برجل لا تحبه، على إثر هذه الحادثة، وتحت وطأة الشعور بخذلان أخته التي تقاعس عن مساندتها قبل أن تلجأ للانتحار، يغادر عبداللطيف السالم قريته، وينتقل إلى البلدة «س» التي تبعد بضعة كيلومترات عن دمشق، ليعمل فيها معلما بإحدى مدارسها، ثم يشارك أهل هذه القرية في تظاهراتهم ضد النظام خلال السنوات الأربع الأولى للثورة، رغم أنه كان عضوا في حزب البعث لكنه رأى كيف خان رفاق حزبه المبادئ «واستأثروا بالامتيازات وسجنوا رفاقهم سنوات طويلة، ولم يتوانوا عن بيع قضيتهم من أجل البقاء في الحكم» ص104.

وعندما اشتد المرض بعبداللطيف، انتقل إلى بيت ابنه بلبل في دمشق، الذي كان يسكن في حي موالٍ للنظام، ليموت في المستشفى.

يتصل بلبل بشقيقه حسين وأخته فاطمة، وينقل إليهما وصية والدهم، وبعد أن يتسلموا الجثة من المستشفى ويضعونها في الميكروباص الذي كان يعمل عليه حسين داخل المدينة، يتوجهون نحو قرية العنابية لدفنها هناك.

هذه المهمة التي كانت في الأوقات العادية لا تستغرق سوى ساعات قليلة لأن المسافة بين دمشق والعنابية لا تتجاوز مائتين وخمسين كيلومترا، تصبح مهمة شبه مستحيلة في زمن الحرب، وتستغرق ثلاثة أيام، نتعرف خلالها على آثار الحرب السورية وتداعياتها المؤلمة على حياة الناس، القرى المدمرة، والموت الذي أصبح حدثا يدعو إلى الحسد. «الشوارع تعج بمسلحين مجهولي الهوية، الكهرباء مقطوعة في أغلب الأحياء، كل شيء يبدو قريبا من الموت في هذه الفوضى» ص13.

ومن خلال السرد تتكشف لنا الأوضاع المروعة التي وصلت إليها البلاد في ظل هذه الحرب، الجثث الملقاة في الشوارع وقد نهشتها الكلاب، وبحث الأهالي عن جثث أبنائهم في المستشفيات المكتظة بالقتلى، وعندما لا يعثرون عليها يذهبون ليبحثوا عنها في مكان المعركة، حيث القبور الجماعية للجثث، أو تضيع بين ركام الأبنية المدمرة، وحديد هياكل الدبابات والمدافع المحترقة. وتتفسخ جثة الأب وهم في طريقهم إلى العنابية، ويبدأ الدود يخرج منها، وتطارد الكلاب «الميكروباص» كي تأكل الجثة التي بداخله بعد أن انتشرت رائحتها.
يمرون على بوابات الجيش التابع للنظام السوري، كما يمرون على بوابات الكتائب المسلحة المعارضة، بما فيها كتائب الجماعات الإسلامية المتشددة، وخلال هذه الرحلة نجد أنفسنا أمام مشاهد مأساوية، غرائبية، ففي أحد هذه المشاهد تعتقل إحدى كتائب النظام بأحد الحواجز على الطريق جثة الأب بحجة أنها جثة معارض للنظام، وبعد جهد ينجح الشقيقان بلبل وحسين في إخلاء سبيل الجثة عن طريق دفع رشاوى للعسكريين. وعند حاجز آخر تسيطر عليه جماعة إسلامية متشددة معارضة، يعتقل بلبل بعد أن يفشل في اختبار معلومات عن الصلاة والوضوء والزكاة، من قبل أحد عناصر الجماعة، ويتم حجزه لغرض تعليمه واجباته الدينية، فيما ينجح حسين في الإجابة على الاختبار ذاته، تصاب أختهم فاطمة بالخرس بعد بقائها في «الميكروباص» برفقة الجثة المتفسّخة لخمس ساعات أثناء اعتقال أخويها عند التنظيم الإسلامي، ثم يطلق سراح بلبل بعد توسّط عمه الكبير نايف لدى الفصيل المتشدد، وفي نهاية الرحلة المضنية، يصلون قرية العنابية وهم في غاية الإنهاك والإحباط، والجثة تتناسل منها الديدان بأعداد هائلة، وتبدو قرية العنابية الصغيرة، مهجورة، مدمرة بفعل قصف طيران النظام السوري لها عديد المرات، ويتم دفن الجثة من قبل أولاد عم الأشقاء، ولكنها تدفن في مكان بعيد عن قبر أخته وقبر أمه.

وبقدر ما يصور السرد المكثف معاناة الأشقاء الثلاثة ومعهم الجثة وهم يواجهون الأخطار في تنقلهم بين الحواجز الأمنية والعسكرية، الموالية والمعارضة للنظام، فإنه يرسم الحواجز النفسية بينهم، الأب المتوفى عبر العودة إلى ماضيه، وخلافه مع ابنه حسين الذي ترك بيت والده في سبيل الإثراء بأي وسيلة حتى إنه أصبح يعمل سائقا للعاهرات في منتصف الليل، ومطالبة الأب بقية أفراد العائلة بمقاطعة هذا الابن العاق، أيضا الخلاف بين بلبل المؤيد للنظام السوري ووالده المناصر للثورة، وفاطمة التي حلمت بالسعادة من خلال الزواج برجل ثري، فتزوجت مرتين دون حب، فلم تظفر بالسعادة ولا بالثراء، وأيضا الخلاف بين الشقيقين بلبل وحسين نتيجة تراكم البغضاء في قلبيهما، ويتحول الخلاف في مرحلة متقدمة من الرحلة إلى عراك بالأيدي. وهكذا تبدو صورة عائلة عبداللطيف السالم مفككة يسودها النزاع والكراهية على العكس من الصورة المثالية التي توهمها الأب عن نفسه وعن أسرته، وحاول أن يقدمها للآخرين، لكن الرحلة إلى العنابية في ظل الحرب تكشف عمق التفكك، وتضع الأشقاء أمام تحديات البقاء أسرة واحدة، بل لعلها تطرح سؤالا عن مدى استمرار البلاد موحدة، والمجتمع السوري مجتمعا واحدا بعد أن تعمق فيه النزاع والتناحر، وراح يتشظى وينقسم إلى مناطق ومدن وقرى وطوائف تناصب بعضها البعض العداء.

وفي ظل هذه الأوضاع القاتمة نرى الحب وهو يناضل باستماتة، فتحرق ليلى شقيقة عبداللطيف نفسها لأن أسرتها تريد إجبارها على الزواج ممن لا تحبه، رغم أن الرجل الذي أحبته «جميل» يتخلى عنها ويتزوج بامرأة أخرى قبل أن يتم إعدامه من قبل السلطة لأسباب سياسية، ويعجز بلبل عن الزواج بحبيبته لمياء التي كانت قد أطلقت عليه اسم بلبل، بدلا من نبيل، بسبب اختلاف دين كل منهما عن الآخر، لكن تستمر علاقة الصداقة مع حبيبته وزوجها هيثم، فيما يطلق هو زوجته، ويبقى وحيدا يستعيد ذكرياته مع لمياء، ويتمنى أن يتكرر ما فعله والده الذي تزوج حبيبته نيفين بعد أن ترمل وترملت وفقدت ابنيها في الحرب، يتزوجها وهو على مشارف السبعين بينما هي في الستين من العمر «أباه [كذا] فاجأه حين أضاف في الليلة التالية، إن الحب الذي يجرف كل الماضي دفعة واحدة يجب فتح كل الأبواب له، ومساعدته على غسل أعماقنا، واقتلاع كل الأغصان اليابسة التي لم تعد تورق. اقتلاع الماضي المعطوب دفعة واحدة، ورميه في سلة المهملات، عذاب هائل لكنه ضرورة لالتقاط الوردة الطافية على صفحة النهر والعبور إلى الضفة الأخرى» ص81.

تنأى الرواية عن تقديم خطاب مباشر لكنها تطرح أسئلة الواقع السوري في زمن الحرب، فأمام الخراب الذي عم البلاد، والموت الذي صار في كل مكان، نلمح انتصارا للحياة عبر استمرار رحلة الأبناء، حتى تنفيذ وصية الأب رغم ما واجهوه من أخطار جعلتهم في أكثر من موقف يفكرون في دفن الجثة في الطريق، والتملص من تنفيذ الوصية، ولعل مغزى طلب الأب أن يدفن في قبر شقيقته ليلى يمثل تأكيدا على الثورة على القهر وانحيازا للحرية وهي المعاني التي يمثلها كل من عبداللطيف الذي شارك في الثورة على الاستبداد، وشقيقته التي أحرقت نفسها رافضة للقهر وتأكيدا لحريتها الشخصية في الزواج ممن تحب. وتختتم الرواية بنهاية مفتوحة نرى فيها بلبل الذي يمثل المواطن الخائف المستسلم، العاجز، عن اتخاذ موقف تجاه السلطة وقد تخلى عن مغادرة البلاد إلى تركيا، وعاد إلى بيته في الحي الموالي للنظام الذي يعامل فيه كشخص مشكوك في ولائه «قرر أنه لن يسمح لأحد بمناداته سوى باسمه الأصلي نبيل.. شعر برأسه تنهشه تلك الكلاب التي هاجمتهم، إنه الآن جيفة أيضا، نهض ووضع رأسه تحت صنبور المياه الساخنة. أراد رؤية ذوبان ملامحه وتلاشيها. استمر صمته طول الليل، سار نحو غرفة النوم اندس في فراشه، وشعر بأنه جرذ كبير يعود إلى جحره البارد، كائن لا لزوم له ومن الممكن التخلي عنه ببساطة» ص 206.

- خالد خليفة «الموت عمل شاق» دار العين للنشر، 2016.