Atwasat

مستقبل وتحديات التغيير السياسي للوطن الليبي (1-2)

سراج دغمان الأحد 18 ديسمبر 2022, 04:49 مساء
سراج دغمان

لمحة تاريخية..
إن بناء الدولة الليبية الحديث سياسيًا واجتماعيًا قد مر بمراحل عدة ومختلفة سواءً على صعيد البناء الاجتماعي السفلي لقاعدة المجتمع، أو على صعيد البناء الفوقي لهرم السلطة وكوادر الدولة وطبقة التكنوقراطيين والبرجوازيين، ولاشك أن هناك بعدين أساسيين متوازيين كانا يشكلان الحلقة الأساسية لبناء وصناعة الدولة الوطنية الليبية في العام 1951م بجغرافيتها التي نراها اليوم، فكان هناك البعد المحلي لحركة المجتمع الذي أفرز قيادات وزعامات وطنية في ميادين شتى تطورت عبر مراحل زمنية مختلفة سواءً في طرابلس أو بنغازي، حيث بدأت تتشكل معالم مجتمع الشمال الموحد، وذلك تحديدًا منذ عهد يوسف باشا القرمانلي والعهد العثماني الثاني والحركة السنوسية التي استطاعت أن تخلق نموذجها الاجتماعي الخاص والفريد، لينتهي الإطار النهائي لشكل الجغرافية الليبية الموحدة من الشمال إلى الجنوب خلال حقبة الاحتلال الإيطالي، الذي قام بتأسيس البنية العمرانية والإدارية والتعليمية والاقتصادية والسُلَطية الحديثة الأولى للكيان الليبي، وثم عصر الإدارة الإنجليزية التي ساهمت في التأسيس الفعلي لمؤسسات الدولة الليبية بإطارها الحديث، والبُعد الآخر هو البعد الجيو سياسي الدولي الذي لطالما كانَ هو المحرك الأساسي للداخل الليبي عبر التاريخ، فنجد أن ليبيا أسست الحضارات المائية واجهتها التاريخية الأولى في تاريخ جغرافية شرق المتوسط، ولطالما كان صراع الحضارات والمصالح الاستراتيجية القائم في منطقتنا بين الأمم الكبيرة حاضرًا بثقلهِ على كاهل الجغرافية الليبية، حيث لو حللنا تركيبة النسيج الاجتماعي الليبي سوف نجده منتوجًا لتفاعل الرياح الجيوبوليتيكية من الشرق الأوسط والمغرب الكبير وجنوب أوروبا.

فالمجتمع الليبي الحديث هو ناتج في بنائهِ عن مكونات اجتماعية أتت من خلال الهجرات البرية سواءً من الشرق الأوسط أو من المغرب الكبير أو من حدود ليبيا الجنوبية، وأخرى أتت عبر البحر من تركيا ودول البلقان واليونان وإيطاليا ومناطق أخرى من جنوب أوروبا، بالإضافة للعنصر البشري الأساسي في تكوين لبنة الديمغرافيا السُكانية الليبية من السكان الأوائل من القبائل الأمازيغية، ليتكون بذلك نموذج اجتماعي فريد يجمع بين أعراق مختلفة وطبائع متعددة مُشكلًا كيان الأمة الليبية الحديث، حيث أينما وُجد التنوع والتعدد العرقي والثقافي والأيديولوجي تزداد عناصر قوة الدولة ويمتد وجودها ويغزر منتوجها الحضاري.

الواقع المأزوم ورؤية الحل..

ولعل القارئ للمشهد الليبي اليوم لا يستطيع تشكيل وبناء رؤية الحل من خلال معطيات الواقع المتأزم شديد التعقيد، وذلك يعود للأسباب الآتية:
أولًا: لا توجد معطيات حقيقية تدل على أن الصراع القائم أسبابه سياسية محلية لكي يكون الحل ليبيًا فقط في منأى عن البعد الدولي، فلا يوجد بناء سياسي عميق أو بناء طبقي يفرز أيديولوجيات حقيقية تُغذي حالة الاشتباك الراهن في الشمال والجنوب الليبي، بل إن البنية السلوكية والفكرية بين المتخاصمين تكاد تكون واحدة بين معسكرات الأزمة والتأزيم، وكل الأطراف تقوم على ركائز رخوة لا تستطيع أن تمد جسورها نحو المستقبل ونسبة بطيئة من الأداء.

ثانيًا: شبه غياب دور النُخب والمجموعات السياسية والمدنية الفاعلة، التي تستطيع أن تخلق حوارًا جماعيًا بناءً ينتهي بتأسيس الاستقرار وإقامة الدولة المدنية الحديثة في ليبيا مع قوى النفوذ الدولي، خاصةً مع امتداد وتوسع دائرة الصراع الكبير القائم اليوم بين قطبي العالم الشرقي والغربي إلى حدود أفريقيا والمتوسط، كما يبدو أنه يغيب عن بعض الساسة الليبيين أن ليبيا الحديثة ضمن المنتوج والإطار الأطلسي الأنجلو ساكسوني، وأن أي صعود لنفوذ قوى سياسية أو تيارات دولية جديدة في محيطنا غير هذهِ القوى يأتي على حساب وحدة وأمن الجغرافيا الليبية ومقدراتها.

ومن خلال ما تقدم نحاول طرح قراءة في رؤية الحل المستقبلي للمشكل الليبي..

أولًا: البعد الداخلي الليبي..
العامل الأساسي الذي يقوم بهِ كيان الدولة هو بناؤها الاجتماعي السُفلي القاعدي، ويبدو أن البناء الاجتماعي الليبي على ما مر بهِ من شدة ومحن وصعوبات عبر أزمنة وعقود طويلة لا يزال يحمل عوامل الوحدة، تجاه المشاريع التي تحاول أن تُجزئ كيانه وتقضي على نموذجهِ ووجوده ككتلة واحدة متعددة الثقافات في هوية واحدة، والعامل الثاني هو الأفكار التي تُشكل بنية العقل الجمعي للمجتمع بحيث يكون نتاجها النهائي هو إفراز الهوية الوطنية الجامعة، ويبدو أن الخلل الأساسي في الداخل الليبي هو عدم وجود حراك فكري ثقافي مستنير منذُ عقود، فحالة الجمود الفكري التي فُرضت على الداخل الليبي وعزلهِ عن مجالهِ المائي الواسع منذُ انقلاب 1969م، لم تجعل العقل الاجتماعي الليبي يتطور ويتفاعل مع محيطهِ كما يجب، وكان المنتوج هو الانهيار المُجزئ للدولة الليبية عبر مراحل حتى الوصول إلى الانفجار الكبير في فبراير 2011 م، ويبدو أن البناء الاجتماعي القائم اليوم يحتاج إلى نخبة فكرية مستنيرة من كامل الجغرافية الليبية، تحاول أن تصوغ مفاهيم جديدة وأفكارا مغايرة عن الأفكار الموجودة اليوم، والتي لو استمرت فلن يكون هناك منتوج مُستقبلي مغاير عن واقع الأزمات المختلفة التي نشاهدها في حاضرنا، بل ربما سوف يتدهور الأمر إلى المزيد من الغوص في قاع المجهول الذي لا نستطيع أن نحسب أبعادَ عُمقهِ اليوم، فالعقل الذي خسرنا بهِ معركة البناء والسلام والنمو لا نستطيع أن نكسب بهِ الغد المُشرق.

ولاشك أن المثقفين والنُخب العلمية من شتى المجالات لا تستطيع وحدها دون أداة تنفيذية قوية وأداة تشريعية موحدة تدعم مجهودها إنجاز الكثير في هذا الميدان، الذي يتطلب توظيف قدرات الدولة في خلق نظام تعليمي حديث يقوم على منهجية تستطيع أن تخلق بناءً فكريًا وثقافيًا جديدًا لدى الأجيال الجديدة والمستقبلية، كذلك تأسيس مراكز تنويرية تدعمها الدولة في المدن والمناطق المختلفة، بحيث تستطيع الدولة مع المثقفين والنخبة تشكيل بناء ثقافي جديد في البنية العميقة للمجتمع وإصلاح وتطوير الإطار المفاهيمي الموجود، لكي يحفظ ويصوغ الهوية الليبية من تداخلات رياح ثقافية أخرى محيطة قد تمس بالهوية الليبية المغاربية ذات البُعد المتوسطي، بمضمون حداثي يكون الفرد فيه منزوعًا من الثقافة الموروثة إلى عالم الاستنارة الذي تأتي رياحهُ دائمًا من الحضارة المائية عبر ترسيخ مفهوم المواطنة الحديث والبناء الحقيقي العميق لفلسفة الدولة المدنية.