Atwasat

وداعاً مكتبة الساقي

جمعة بوكليب الأربعاء 14 ديسمبر 2022, 12:50 مساء
جمعة بوكليب

السُّقاة أنواع. وهم مثل العاملين في كل المهن، يتدرجون في سلم المراتب. سقاة الماء، على أهميتهم، يقبعون في أسفله.

السقاة في المقاهي والحانات، من الجنسين، لا يحتاجون إلى تعريف أو تقديم. تغزل بهم الشعراء، وتغنى بهم المغنون، وتنافس على تخليدهم الرسامون. وهم متفاوتون في الرتب. الموقع في المراتب، علواً وهبوطاً، يتوقف على أشياء كثيرة. الخبرة، اللباقة، الأناقة، ملاحة الوجه، سرعة البديهة، وطلاقة اللسان وحلاوته. الأهم من ذلك، وضعية أماكن أعمالهم، وموقعها الجغرافي والاجتماعي، ونوعية من يرتادها من رواد.

سقاة الثقافة والمعرفة، اسم غير مألوف، بوقع غريب على الآذان. كونه ملوناً بغرابة، تثير قلقاً أو ريبة لدى السامعين. وارتأيت أن أطلقه على العاملين في المكتبات عموماً، على اعتبار أنهم يتواجدون لخدمة كل من يلتجيء إليهم طلباً لإرواء غليل من منابع الثقافة والمعرفة.

أذكر أنني كنت ضيفاً على جامعة منوبة بتونس، صحبة الصديقين عمر الككلي ونورالدين النمر، وجرت استضافتنا من أساتذتها على وجبة غداء في «المشرب!!»، ويقصدون بذلك المطعم. ولم أستغرب التسمية، لعلمي المسبق أن للإخوة في تونس قاموساً لغوياً ينفردون به، ويميّزهم.

اخترت أن أسمي العاملين في المكتبات بسقاة الثقافة والمعرفة، لأني قصدت تشبيههم بالعاملين في المحلات المخصصة لبيع الشراب. في المقهى والحانة يأتيك الساقي/ الساقية بما تشتهي من أنواع الشراب. وفي مكتبة الساقي، بلندن، يستقبلك أمين ومهدي، بوجهين عراقيين، وبابتسامتين عربيتين مرحبتين، وعلى تأهب واستعداد لإرواء ظمأ عقلك إلى ما جئت قاصداً، واشتهيت راغباً.

وأنا لا أتوقع أن ينال التشبيه (سُقاة المعرفة والثقافة) موافقة ورضا القراء. لكني أراهن على أن قلة منهم لن يتعجلوا إصدار في أحكامهم، بل سوف يتمهلون، مفكرين في الأمر، آخذين في اعتبارهم إطلاق اسم الساقي على مكتبة في لندن، أضحت أشهر من نار على علم.

مكتبة الساقي اللندنية، في شارع ويست بورن غروف، منطقة بيز واتر- Bayswater المشهورة، على بعد مرمى حصاة من حديقة هايد بارك التاريخية، ستغلق أبوابها في نهاية هذا الشهر (ديسمبر 2022). الإغلاق بمثابة إعلان عن نهاية حقبة تاريخية في سجل الجاليات العربية، في مدينة متعددة الأعراق والجنسيات.

قرأت خبر الإغلاق صدفةً في موقع جريدة الغارديان البريطانية، مساء الاثنين قبل الماضي. وفي صباح اليوم التالي (الثلاثاء) سمعته ضمن أخبار نشرة صباحية، تبث من إذاعة «بي بي سي» القسم العالمي.

قبل إغلاق مكتبة الساقي، شيّعنا ديوان الكوفة إلى مثواه الأخير منذ سنوات. وحُرمنا مما كان يقدمه لنا من «كوكتيلات» ثقافية متميزة ومتنوعة، كان يعدها لنا على شكل لقاءات تجمع أغلب المثقفين العرب في لندن، في أمسيات عديدة، بضيوف من كتّاب وشعراء ومفكرين عرب، سواء أكانوا من المقيمين في أوروبا وبريطانيا، أو من جاء منهم من البلدان العربية. وقبل ذلك اختطف الموت مكتبة الكشكول، في منطقة نايتس بريدج. وفي السنوات الأخيرة لم يعد لمكتبة أليف في بيكر ستريت أي وجود!

مكتبة الساقي لم تكن مجرد مكتبة عادية لبيع الكتب، بل كانت معلماً من معالم لندن. ومكانها سيحلّ، بعد فترة زمنية قصيرة، مطعم آخر لبيع الكباب، أو الفقوس، لا فرق. وتدخل سيرة شارع «ويست بورن غروف» في دهاليز النسيان، بعد سنوات مديدة من شهرة نالته من ارتباطه بوجود مكتبة الساقي.

الخبر يؤكد أن المكتبة، فقط، من لحقتها لعنة الإغلاق. أما مؤسسة الساقي للطباعة والنشر، فإنها سوف تواصل المسيرة. ووجود دار النشر وحدها، لن يكون سبباً كافياً، لي ولغيري، لزيارة منطقة بيز- واتر مرة أخرى، لمعرفتي المسبقة بأنني لن ألتقي صدفةً بأصدقاء هناك. ولن أتجاذب أطراف حديث مع أمين أو مهدي، أو كاتب عربي، جاء من بلد بعيد لزيارة المكتبة. ولن أفكر مجدداً في دعوة من يأتيني زائراً من أصدقاء للذهاب إلى تلك الجهة من لندن.

ومن أين يا ترى، بعد إغلاق مكتبة الساقي، يمكنني وأمثالي اقتناء ما يستجد وينشر في بلاد العُرب، أولاً بأول، من روايات ودواوين شعر ودراسات جديدة، كل عام؟

سؤال أخير، ولا أرتجي إجابة: هل المصادفة وحدها، ما كان وراء تزامن حدث إغلاق مكتبة الساقي، مع حدث بلوغي سنّ السبعين؟